NORTH PULSE NETWORK NPN

تركيا بوابة آمنة للجزائر نحو أوروبا

الجزائر ستجد نفسها الآن متحررة من الابتزاز الفرنسي الذي مارسته ضدها طيلة عقود من الزمن بفرض نوع من الوصاية السياسية والاقتصادية والثقافية فما تريده من أوروبا هو في متناول تركيا.

 

ما يحسب للسلطة الجزائرية بقيادة الرئيس عبدالمجيد تبون، رغم تضارب الآراء حول حصيلتها، أنها فتحت بابا آمنا للجزائر من أجل الوصول إلى أوروبا بتشعباتها وتعقيداتها، فبعد عقود من حصرية الباب الفرنسية التي ظلت تشكل المنفذ الوحيد لها من أجل الوصول إلى القارة العجوز، تمكنت النخبة الحاكمة الجديدة من إدارة البوصلة كلية وبناء محور يتعزز تدريجيا يربط بين الجزائر وأنقرة.

 

ولعل أبرز مؤشر على النجاح اللافت الذي حققته الجزائر خلال سنواتها الأخيرة، هو تبادل زيارات الرئيسين مرتين لكل منهما خلال ثلاث سنوات، فباتت تركيا أول مستثمر في الجزائر وثاني شريك اقتصادي وتجاري لها، وفي ظرف وجيز قفز رقم المبادلات بأكثر من مليار دولار، بينما ما يوصف بالشراكة الحتمية والتاريخية بين الجزائر وفرنسا توجد في حالة عدم استقرار وفقا لمؤشر الوضع السياسي المحكوم بالصعود والنزول المزمن.

 

فرنسا التي مارست الابتزاز ضد الجزائر منذ مغادرتها في صائفة العام 1962، ظلت تحتفظ بحصرية تقديمها وعرضها أمام المجموعة الأوروبية، وحتى الأوروبيين أنفسهم فهموا اللعبة، لذلك لم ينازعوها في ذلك، وفق “سايكس بيكو” غير معلنة يقتسم فيها الأقوياء مواطئ النفوذ والمصالح، ولذلك ظلت العلاقات الجزائرية – الأوروبية مرهونة بالفيتو الفرنسي، والكل يتذكر مفاوضات جدولة الديون في تسعينات القرن الماضي، ثم إبرام اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي مطلع الألفية الجديدة.

 

 

والآن لا تزال زيارة الرئيس الجزائري إلى باريس معلقة منذ العام الماضي، لأسباب مختلفة أدت في كل مرة إلى إرجائها أو تجميدها، لكن الرئيس نفسه زار تركيا مرتين وزار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجزائر مرتين أيضا، وهو تحول لا يبدو أن فرنسا انتبهت له إلى حد الآن، ولذلك فإن باريس ستكون الخاسر الأكبر من التناغم بين البلدين، وأن المحور الصلب بين الجزائر وأنقرة سيزيد ذلك الرابط بينها وبين باريس هشاشة، لأن فرنسا ستفقد إحدى أوراقها القوية، وهي حصرية عرض وتقديم الجزائر إلى المجموعة الأوروبية، وهو الدور الذي ستضطلع به الآن تركيا بما تملكه من قوة ونفوذ إستراتيجي يربط بين قارتين.

 

الجزائر ستجد نفسها الآن متحررة من الابتزاز الفرنسي الذي مارسته ضدها طيلة عقود من الزمن، بفرض نوع من الوصاية السياسية والاقتصادية والثقافية، فما تريده من أوروبا هو في متناول تركيا، وما تريده الأخيرة في المنطقة وأفريقيا هو في متناول الجزائر، وهي مصالح متبادلة تكرست بحزمة من التفاهمات والاتفاقيات الاقتصادية والتجارية سيرتفع بموجبها حجم التبادل إلى عشرة مليارات دولار في غضون سنوات قليلة، فضلا عن مشاورات سياسية حول الساحل والصحراء وعموم أفريقيا، خاصة وأن أنقرة تدرك جيدا بأن منافسة الكبار في أفريقيا تحتاج إلى شريك إستراتيجي تنطلق منه عملية الانتشار والتغلغل، ولا أفضل من الجزائر في مثل هذا الوضع.

 

تساءل كثيرون عن الجدوى والمغزى من أن يكون أردوغان أول رئيس يزور الجزائر في أجواء يخيم عليها الغموض والضبابية بسبب الأوضاع السياسية الداخلية، وبعد أيام قليلة من انتخابات رئاسية اعترتها العديد من الاختلالات والانتقادات، لكن الرجل على ما يبدو كان يرسم خطواته بدقة، وما ضاع في محاولاته مع الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، كان يريد تداركه مع رجل معروف بشكل كبير لدى شركات البناء والإنشاءات عندما كان وزيرا للسكن.

 

وكأن الأمر كان مدبرا له من قبل، كانت تركيا أول المستفيدين من الانتخابات الرئاسية الجزائرية لعام 2019، خاصة بعدما انكفأت أو ترددت العواصم المتعودة على المساهمة في صناعة رؤساء الجزائر، وعلى رأسها باريس، فتراجعت الأخيرة واندفعت أنقرة، وهو التحول الأول الذي أفرز النتائج الحالية، خاصة وأن النخبة الحاكمة التي أعقبت الرئيس الراحل بوتفليقة أظهرت من لحظاتها الأولى مناهضة غير مسبوقة للنفوذ الفرنسي وبحثت عن علاقات دولية ندية ومصالح مشتركة محترمة.

 

لقد مارست فرنسا “فيتو” الرفض لمشروع “ديزرتيك” بين الجزائر وألمانيا، لعلمها أن مشروعا كهذا سيحرر الجزائر تماما من قبضتها، فبقعة بسيطة من صحرائها إذا تحالفت مع التكنولوجيا الألمانية ستنير كل أوروبا، وهذا لا يروق لفرنسا أن غريمتها في أوروبا تستحوذ على الطاقة البديلة، ولا مستعمرتها القديمة تتخلص تماما من ثوبها.

 

مثل هذه الحسابات وما يتصل بسرديات التاريخ والذاكرة والعقدة الاستعلائية، هي التي رجحت الكفة لصالح الأتراك، بينما غرق الفرنسيون في سوء فهم حركة الزمن، فتركيا تحرص على استغلال موقف الجزائريين منها، بما في ذلك خلال حقبة الحماية (1500 – 1800)، ومن تراثها ومن تاريخها ومن أنصارها في تيار الإخوان، بينما لا تتوقف فرنسا عن استفزاز الجزائريين في تاريخها القريب.

 

لما سأل صحافي الرئيس التركي أردوغان عما أسماه بـ“الاستعمار الناعم لتركيا للمنطقة ولعموم القارة السمراء”، رد بالقول “لم يحدث هذا.. اسأل الجزائريين هل يعرفون اللغة التركية”، في تلميح إلى أن الحقبة العثمانية في الجزائر لم تكن لطمس الهوية الحضارية والثقافة المحلية، بينما على العكس تماما، فعلت فرنسا الاستعمارية كل شيء من أجل القضاء على الثوابت الروحية والحضارية للشعب الجزائري.

 

بمثل هذا الخيار وجدت الجزائر ضالتها في شريك يدير خيوط اللعبة باقتدار، فهو يدرك أن المفتاح الضامن لتعزيز المحاور الإستراتيجية هو احترام المصالح والندية مع الطرف المقابل، بعيدا عن الحسابات أو الابتزاز الذي دأبت عليه فرنسا في التعاطي مع مستعمراتها القديمة، ففقدت مواطئ نفوذها في أفريقيا تباعا، وستستفيق على فقدان بوابة أفريقيا لصالح واحد من غرمائها في المنطقة.

 

المصدر: صحيفة العرب

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.