سوريا بين لعنـ.ـة اللاانتمـ.ـاء و واقـ.ـعية السـ.ـياسة الأمـ.ـريكية
سوريا بين لعنة اللاانتماء وواقعية السياسة الأمريكية
الدكتور فرات ناصر الناصر
اللاانتماء السوري: أزمة بنيوية لا طائفية
يشهد المجتمع السوري اليوم تعمقاً غير مسبوق في حالة “اللاانتماء البنيوي”، وهي حالة عابرة للطوائف والمناطق والانتماءات الطبقية. لم يعد الانقسام في سوريا مجرد انعكاس لصراع سياسي أو طائفي، بل أصبح أزمة بنيوية تقوّض أسس الهوية الوطنية وتفكك منظومة الانتماء التي تُعد شرطاً جوهرياً لقيام هوية سياسية جامعة.
في أدبيات علم الاجتماع السياسي، يُعرّف اللاانتماء البنيوي كحالة من الإقصاء غير المباشر، ناتجة عن انهيار المنظومات المؤسسية التي تمنح الأفراد حماية قانونية، كرامة رمزية، وموقعاً فاعلاً في الحيّز العام. المواطن السوري، في ظل هذه البنية، لم يعد يرى في الدولة مرآة لانتمائه، بل كياناً غريباً عنه، يمارس إدارة باردة لمجتمعات منهكة.
إقصاء صامت وغياب الدولة المؤسِّسة
ما يتكرّس في سوريا اليوم هو نمط جديد من الإقصاء، لا يعتمد على العنف المباشر فقط، بل على غياب الرؤية التأسيسية للدولة ذاتها أيضاً. المواطن يُقصى لأن الدولة فقدت قدرتها على تعريفه، ولم تعد تملك أدوات دمجه. ومع غياب الحماية من الأعلى، والتضامن من الأسفل، تتفاقم أزمة اللاانتماء، وينشأ شعور باللاجدوى الوطني، يتغذى على انعدام الاعتراف وغياب المؤسسات الضامنة.
بلقنة مؤسسية لا تقسيم ترابي
ما نشهده في سوريا ليس مشروعاً كلاسيكياً للتقسيم الجغرافي، بل هو بلقنة مؤسسية ناعمة، قائمة على أشكال غير سيادية من التحكم، تُدار ضمن أطر أمنية وإدارية متعددة بإشراف قوى إقليمية. النتيجة هي كيانات شبه مستقلة، هشة، بلا قاعدة اجتماعية راسخة أو تمثيل سياسي حقيقي، تُعيد إنتاج نفسها عبر شبكات فساد وتحاصص ونفوذ.
واشنطن: من إعادة التشكيل إلى إدارة الواقع
تصريحات المبعوث الأميركي توماس براك في تموز 2025 كشفت عن تحوّل لافت في سياسة واشنطن تجاه سوريا: لا سعي لتغيير جذري ولا اندفاع نحو ديمقراطية مثالية، بل تكيّف محسوب مع الوقائع، تحت شعار “الاستقرار مقابل الحد الأدنى من التغيير”.
واشنطن اليوم لا تُعيد تصميم النظام السوري بل تدير واقعه القائم. السياسة الجديدة تقوم على البراغماتية الحذرة، دعم مشروط لحكومة انتقالية فاقدة للشرعية التأسيسية، وخفض الوجود العسكري مقابل توسّع في النشاط الدبلوماسي.
الشرعية المؤجلة وحكومة انتقالية بلا عمق
رئيس الحكومة الانتقالية، أحمد الشرع، الذي تولّى السلطة بعد انهيار نظام البعث أواخر 2024، يقود سلطة انتقالية تحت شروط أمريكية صارمة: دمج قوات سوريا الديمقراطية، إشراك الأقليات، تخفيف الخطاب الإسلامي. ورغم هذه المتطلبات، تظهر مؤشرات أن النظام الجديد لا يتحرك من منطلق داخلي إصلاحي بل وفق حسابات خارجية تهدف لتخفيف الضغوط لا لتفكيك البُنى السلطوية.
الفساد الرمادي وشرعية مشروطة
توصيف براك للحكومة الانتقالية يؤكد أن الشرعية باتت مشروطة بأداء أمني وإداري. لكن الواقع على الأرض يكشف عن ممارسات فساد مقنّع، واقتصاد سري تُديره جماعات لها صلات بهيئات متشددة. هذه البيئة الملتبسة تقوّض أية شرعية محتملة، وتجعل من الدعم الدولي مشروطاً ومؤقتاً.
العقوبات الأمريكية: رفع جزئي لا يلغي الضغط
رغم إعلان ترامب عن رفع جزئي للعقوبات في حزيران 2025، فإن قانون قيصر لا يزال سارياً، وشروطه لم تتحقق: وقف القصف، إطلاق المعتقلين، تشكيل عدالة انتقالية. هذا الإبقاء الجزئي للعقوبات يعكس شكوكاً داخل الإدارة الأميركية، ويُبقي دمشق تحت المراقبة والضغط المستمرين.
إسرائيل: الضامن غير المُعلن لتشرذم سوريا؟
الضربات الإسرائيلية على دمشق في تموز 2025، رغم نفي واشنطن علاقتها بها، جاءت في سياق يخدم هدفاً وظيفياً: إبقاء سوريا في حالة من التوازن السلبي. تل أبيب لا تخفي تفضيلها لواقع التشرذم السوري على قيام دولة مركزية موحدة. وواشنطن تجد نفسها مضطرة للموازنة بين هذا المنظور الإسرائيلي وبين سعيها لاستقرار هش لا يخلّ بالتوازنات.
عُقدة الديمقراطية: دروب ضيقة وتردد أمريكي
هل يمكن للولايات المتحدة أن تتحوّل فعلاً نحو دعم ديمقراطي في سوريا؟ الجواب مشروط: إذا استوفت دمشق شروط قيصر كاملة، فقد تنتقل واشنطن من دعم المصالح إلى دعم القيم. غير أن هذا المشهد لا يزال مؤجلاً، في ظل غياب إرادة سياسية داخلية حقيقية للتغيير.
عوامل التعثر: من غياب المثقف العضوي إلى انفصام وطني
تعثر الحلول في سوريا ليس مصادفة. إنه نتاج لغياب المثقف العضوي، وسيطرة وهم قومي يَحول دون أي اعتراف حقيقي بالتعددية. حتى المبادرات الوطنية تبدو خجولة، حتى أنها لم تجرؤ على منح قوات سوريا الديمقراطية موقعها المستحق رغم دورها في مكافحة الإرهاب.
أزمة العقد الاجتماعي السوري
النموذج المركزي للدولة السورية باء بالفشل، خاصة في بلد يضم أكثر من أربعين مكوناً إثنياً ودينياً. تقسيّم سوريا بين “مناطق مفيدة” وأخرى مهمّشة عمّق الشروخ الوطنية. المواطن لم يعد يرى في الدولة ممثلاً له، بل عبئاً فوقياً يطالبه بالخضوع باسم وطنية جوفاء.
الإدارة الذاتية: من شيطنة إعلامية إلى شريك ضروري
رغم كل الانتقادات، تبقى الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا واحدة من التجارب القليلة التي حافظت على العملة السورية، وعلى قدر من المؤسساتية. تحالفها مع واشنطن، ورفضها للمشروع التركي في عفرين وسواها، جعلا منها طرفاً لا يمكن تجاوزه في أي حل سوري.
إن استبعاد الإدارة الذاتية من الحوار الوطني هو تكريس لانفصام سياسي وفكري. فمشروع الأمة الديمقراطية قد يكون الجسر الممكن نحو عقد اجتماعي جديد يتجاوز مركزية الدولة القومية.
خاتمة: هل نتعلّم من لوزان؟
في الذكرى الـ102 لاتفاق لوزان، الذي صاغ مصير المنطقة دون إرادة شعوبها، يبرز سؤال مركزي: هل نُعيد إنتاج التاريخ؟ أم نمتلك هذه المرة فرصة لكتابة مستقبل مختلف؟
الاتفاق الوطني الحقيقي يبدأ من اعتراف متبادل لا من إقصاء متبادل. وإذا لم تدرك النخب السورية أن لا بديل عن مشروع وطني جامع، فإننا سنظل ندور في حلقة من التكرار العقيم. أي اتفاق عملي بين الإدارة الانتقالية والإدارة الذاتية سيكون البداية الفعلية نحو سوريا جديدة، تستمد شرعيتها من الداخل، لا من حسابات الخارج.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.