NORTH PULSE NETWORK NPN

الأبعاد الاستراتيجية لهجوم سجن الصناعة ومآلاته

نورث بالس

قد يرى العديد من المراقبين – للوهلة الأولى – أن ما جرى في مدينة الحسكة هي عملية عسكرية نوعية، قام بها تنظيم داعش، لتحرير الآلاف من عناصره المحتجزين في السجن هناك. إلا أن الأمر برمته يتجاوز ذلك بكثير. فوجود السجن الذي يضمُّ الآلاف من أعتى مجرمي الأرض، في منطقة غير مستقرة، تتناحر عليها معظم الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في الأزمة السورية، يجعل منه أداة ماكنة -ولو كانت صعبة المنال- لتحقيق أهداف معينة، ولكن الحصول عليها سيمكّن الصائد من تحقيق العديد من الأجندات الجيوسياسية في المنطقة. وهذا ما لا يدع مجالاً للشك بتورط بعض تلك الأطراف في عملية الهجوم العسكري على السجن، وإضفاء الصبغة الداعشية على أدواته، والتي لا يستطيع التنظيم في الوقت الراهن تنفيذها وحده، ضمن الظروف الأمنية والسياسية المتقهقرة التي يعيشها.

تركيا والفصائل الموالية لها في قلب العملية

إن الحالة الراهنة في مناطق شمال وشرق سوريا، وفي ظل تكالب مختلف الأطراف عليها، لا يدع مجالاً للشك بأن أي حدث سياسي أو أمني يحدث في المنطقة، لن يكون بعيداً عن تصادم المصالح الجيوسياسية للأطراف المتصارعة، سواءً أكانت داخل المنطقة أو من خارجها. فكيف بحدث يعدّ تنظيم داعش جوهره أو أداته الرئيسية. والذي أثبت أنه كان في أحيان كثيرة قاتلاً مأجوراً، يمكن لمختلف الأطراف والقوى المتصارعة استخدامه، حتى عندما كان في أوج قوته.

لذلك، لا يمكننا فصل ما حدث عن أجندات القوى الإقليمية أو الدولية الموجودة في المنطقة، سواءً كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. فتركيا التي بات القاصي والداني يعلم تماماً مدى الدعم والرعاية التي تقدمها للجماعات المسلحة والإرهابية في المنطقة، ليست بمعزل عن هجوم سجن الصناعة في الحسكة، وإلا فلماذا يتزامن هذا الهجوم مع تصعيد الجيش التركي والفصائل العسكرية الموالية له من وتيرة القصف على المناطق والقرى الواقعة شرقي بلدة عين عيسى، أليس الهدف واضح؟ وهو أنها تريد تشتيت قوة مقاتلي سوريا الديمقراطية، لتخفيف عبء المعركة على أسوار السجن، وتخفيف الضغط العسكري على مقاتلي التنظيم، الذين باتوا محصورين داخل تلك الأسوار، أو في الأحياء القريبة منها.

لم تخفِ تركيا يوماً سعيها المستمر إلى إفشال مشروع الإدارة الذاتية، القائم في مناطق شمال وشرق سوريا، ومن أجل ذلك قامت عدة مرات بمهاجمة المنطقة عسكرياً، باستخدام الفصائل العسكرية المتشددة الموالية لها، ونتيجةً للظروف السياسية التي تعيشها المنطقة، والتمدد الروسي فيها، والوجود الأمريكي أيضاً، لم تحصل على الضوء الأخضر لمهاجمتها مرة أخرى. لذلك، فمن الطبيعي أن تبحث عن البدائل الممكنة لخلق حالة من عدم الاستقرار الأمني والعسكري، حتى تُظهر للعالم أن قوات سوريا الديمقراطية غير قادرة على تحقيق الأمن والأمان لسكان المنطقة، مما يستدعي ضرورة تدخّلها.

من هنا، يستطيع المراقب للأوضاع أن يستنتج بسهولة مساندة تركيا للهجوم الذي قامت به عناصر من داعش، والذين دخلوا سوريا أصلاً عن طريق أراضيها، وهي مَن مهّدت لهم الطرق، ويسّرت لهم السبل من أجل ذلك.

تداخلات جيوسياسية والفصائل الشيعية العراقية ليست ببعيدة عما جرى

تزامنَ الهجوم الذي قامت به عناصر التنظيم على سجن الحسكة، مع عدة عمليات أخرى للتنظيم نفسه في مناطق أخرى بعيدة جغرافياً، ولكنها متداخلة جيوسياسياً إلى درجة كبيرة. فقد تمكن التنظيم من قتل أحد عشر جندياً من الجيش العراقي، في هجومٍ شنّه فجر ذات اليوم عناصر من التنظيم عليهم في محافظة ديالى شرق العراق. الأمر الذي يفتح باباً للتكهّن حول ماهية هذا الهجوم من زاويتين:

الأولى: تزامنه مع هجوم الحسكة

الثانية: تراجع شعبية الميليشيات الشيعية العسكرية وقياداتها في العراق لصالح القيادات السياسية المدنية.

وبالتالي، يضعنا هذا أمام فرضية شبه مؤكدة، بأن هذه التشكيلات وعلى رأسها الحشد الشعبي والإطار التنسيقي الذي يضم قوى وفصائل شيعية على رأسها “ائتلاف دولة القانون” و”تحالف الفتح” المقرب من إيران، تريد استخدام البعبع الداعشي مرة أخرى، لإظهار عجز الجهات المناوئة عن السيطرة الأمنية على البلاد، بعد التواطئ – الذي ثبت عام 2014 – من قبل رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي، صاحب الثقل الأكبر في الإطار التنسيقي المذكور.

وليس ببعيدٍ أن تلك الفصائل ومن ورائها إيران تريد إعادة عناصر التنظيم مرة أخرى إلى العراق، عبر تحرير الآلاف منهم من السجون القابعين فيها في الحسكة، حيث تشكل الأراضي العراقية وصحراء الأنبار ملاذاً آمناً لهم، وذلك لتحقيق أجنداتهم السياسية، سيما أن التنظيم كان شديد الوفاء لها بعد عملية التواطئ تلك، ولم تهاجم طيلة فترة تواجدها في العراق سوى المدن والبلدات والقرى السنية، والقتال ضد الجيش العراقي، بهدف إضعافه وإبقائه رهينة للمساعدات العسكرية واللوجستية الإيرانية؛ بل وزد على ذلك، لبسط الفصائل الشيعية سيطرتها، وتقوية نفوذها بشكل أقوى من الجيش العراقي نفسه، الأمر الذي يترك القرار السياسي في البلد بيدها، ويدفع باتجاه استخدام الورقة العراقية في ملفات عديدة، أهمها الملف النووي الإيراني، وعدم السماح للدول الخليجية بالاستفادة من العمق الجيوسياسي العراقي لصالحها في مواجهة المصالح الإيرانية.

النظام السوري، استخدام الحدث لتشويه صورة قسد

لا تزال مسألة سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على مناطق شمال وشرق سوريا الغنية اقتصادياً، وشراكتها العسكرية مع الولايات المتحدة ودول التحالف الدولي، المتواجدة في المنطقة، تشكّل هاجساً رئيسياً بالنسبة لروسيا والنظام السوري، الذين لا يوفران أية فرصة لتقزيم ما تقوم به هذه القوات، وإظهار عجزها عن حماية المنطقة وسكانها، لتفرض عليها تقديم التنازلات الممكنة، في إطار سعي الطرفين (الروس، والنظام السوري) إلى استعادة هذه المناطق إلى سيطرة النظام.

ووفقاً لذلك، وبالرغم من ادعاء النظام المستمر طيلة سنوات الحرب بمحاربته الإرهاب والجماعات المتشددة، إلا أنه وقف متفرجاً في الأحداث الأخيرة، لا بل حاول تصوير ما يجري بأنه محاولة من قسد لتهجير السكان العرب، والقيام بتغييرات ديمغرافية في الأحياء التي نشب فيها القتال، عقب الهجوم الداعشي على سجن غويران، حيث صدر بيان الخارجية السورية، ليصف تصدّي قوات سوريا الديمقراطية لهذا الهجوم بأنه يرقى لمستوى جرائم الحرب، بهدف تشويه صورته أمام الرأي العام المحلي بالدرجة الأولى، ومحاولة منه لشحن العشائر العربية ضد قسد، كل ذلك لا يمكن النظر إليه إلا في سياق رغبته القوية في استعادة مناطق شمال وشرق سوريا، التي يمكن أن تشكّل بداية إخراجه من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها، لأسباب مختلفة لا مجال لذكرها الآن.

مآخذ عديدة على قسد والولايات المتحدة

النقطة التي لا يمكن إغفالها في هذا السياق، أن الهجوم الذي قام به داعش على سجن الصناعة، تم التخطيط له بدقة عالية، ومنذ فترة تتجاوز العدة أشهر، ونزيد هنا بأن هجوماً بهذا المستوى، احتاج إلى تنسيق عالي المستوى بين عدة أطراف، أهمها العناصر القيادية في داعش، الموجودين خارج قبضة السلطات الأمنية، سواءً أكانت قسد أو الجيش العراقي، ولا شك بأنهم متواجدون في مناطق سيطرة الفصائل المسلحة الموالية لتركيا، كون الكثير من الأدلة والفيديوهات والصور أثبتت أن العديد من كبار الشخصيات الداعشية، والذين استطاعوا الهرب قبل معركة الباغوز عام 2019، انضموا إلى تلك الفصائل، وخاصة الموجودة في سري كانييه (رأس العين) وكريه سبيه (تل أبيض). ومن هناك، تم التخطيط لعملية الهجوم على السجن، بالتعاون مع المخابرات التركية، وبدعم من الجيش التركي، في محاولة يائسة لإنعاش التنظيم، وبث الروح فيه من جديد، وضرب قسد من الداخل، كونهم لم يحصلوا على الضوء الأخضر، للهجوم على المناطق التي يسيطر عليها قسد من على الحدود.

ما يؤخذ إذاً على قسد بالدرجة الأولى وعلى الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً، هي عدد من النقاط يمكن إجمالها بما يلي:

حالة التراخي في التعامل مع ملف يحمل درجة عالية من الخطورة، كملف سجناء داعش، وهم من أعتى المجرمين على الأرض في الوقت الحالي.

عدم تمكّن الاستخبارات التابعة لقسد من كشف مخطط كبير بهذا الحجم، تم التخطيط له ورسمه منذ فترة ليست بقصيرة، وعلى مستويات عالية.

الاستمرار في تغافل المجتمع الدولي عن ملف سجناء داعش، وعدم التعامل معه بجدية، والإبقاء على تكليف قسد بحراستهم فقط، الأمر الذي يضع العديد من إشارات الاستفهام حول لماذا لم تتحرك دول التحالف، وبعد مرور سنتين على إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانتصار على داعش، لإيجاد حل لهذا الملف وترك هذا السجن كقنبلة موقوتة في مناطق سيطرة قسد؟

لا يمكن التأكيد على أن الاستخبارات الأمريكية لم تكشف مخططاً بهذا الحجم قبل تنفيذه، إلا أن ما يمكن قوله أنها أرخت الحبال للأطراف المشاركة حتى ساعة الصفر، لتتدخل في اللحظة التي تناسبها، وتتوافق مع مصالحها، وسياساتها المستقبلية في المنطقة خصوصاً وفي سوريا عموماً.

إن الولايات المتحدة ومعها قسد لم تمارسا من الضغوطات ما تجبر الدول التي يحمل الكثير من العناصر المسجونة جنسيتها وتلزمهم باستعادة هؤلاء إلى دولهم، والتصرف معهم وفق القوانين والأنظمة، أو ما تفرضه الضرورات المجتمعية في تلك الدول.

ترك هذا العدد الكبير من عناصر داعش الخطرين في سجن واحد، يقع ضمن مناطق سكنية مأهولة، جعل عملية الهجوم غاية في الصعوبة، بعد هروب الكثير من السجناء، ودخولهم إلى الأحياء المجاورة للسجن، وإلى منازل المدنيين، مما شكّل حالة صَعُبَ التعامل معها من قبل قوات سوريا الديمقراطية، وتسببت في نزوح آلاف الأسر، وزيادة في عدد الضحايا من العسكريين والمدنيين.

مآلات الهجوم الداعشي على سجن الصناعة

الآن، وبعد مضي نحو أسبوع من الهجوم، وما تزال المواجهات والاشتباكات وعمليات التمشيط مستمرة، وبالرغم من السيطرة شبه التامة لقوات سوريا الديمقراطية، وبدعم من قوات التحالف الدولي على الوضع هناك، إلا أنه يمكن الحديث حول مآلات عملية هجوم داعش على سجن الصناعة، ومن جوانب عديدة:

وضع ملف سجناء داعش وعائلاتهم المتواجدين في مخيم الهول، وباقي المخيمات المتوزعة في مناطق شمال وشرق سوريا، على طاولة المجتمع الدولي وبقوة، خاصة الدول المعنية، والتي يحمل عناصر داعش جنسياتها.

مطالبة تلك الدول – بإصرار – باستعادة مواطنيها من عناصر داعش، ومحاكمتهم على أراضيها، ووفقاً لقوانينها، خاصة وأن من بين المعتقلين ما يسمَّون بـ “أشبال الخلافة”، وهم أطفال وقُصّر دون سن الثامنة عشر، لا مناص من تسليمهم لدولهم، وبحسب الجنسيات التي ينتمون إليها.

بات يظهر جلياً أمام المجتمع الدولي، أن قوات سوريا الديمقراطية أثبتت للمرة الألف أنها القوة الوحيدة في المنطقة التي يهمها محاربة الإرهاب وكسر شوكة الإرهابيين، وإفشال مخططاتهم في المنطقة، بهدف حماية سكان المناطق الواقعة تحت سيطرتهم ونشر الأمن والأمان فيها.

هجوم عناصر داعش على السجن، ومشاركة قيادات كانت متواجدة في المناطق التي تحتلها تركيا، يضع مصداقية حكومة أردوغان على المحك، بادعاءاتها الكاذبة المستمرة في محاربة الإرهاب وخاصة داعش، وبأنها الراعي الأول لتلك الجماعات، وأن هجومها المستمر على قوات سوريا الديمقراطية، تحت يافطة حماية الأمن القومي التركي، ليس إلا شماعة تريد من خلالها ضرب مواطن الأمن والاستقرار في مناطق شمال وشرق سوريا، وتقضي بالتالي على مشروع الإدارة الذاتية فيها.

إن دول التحالف وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا بد وأن تقوم بمحاسبة تركيا كعضو في التحالف الدولي ضد داعش، وهي من تقوم بين الحين والأخر بتقديم كل الدعم والمساندة لهذا التنظيم الأخطر على صعيد العالم.

تبين بوضوح أن النظام السوري يكنُّ في قرارة نفسه رغبة قوية في استعادة المنطقة إلى سيطرته، وإظهار عجز قوات سوريا الديمقراطية عن حمايتها، ولو كان على حساب مساندة الجماعات الإرهابية التي ترعاها تركيا المحتلة للأراضي السورية.

أخيراً، يبدو أن التحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها المنطقة لن تخبو في المستقبل القريب، خاصة في ظل التداخلات الجيوسياسية، وتصادم مصالح القوى الإقليمية والدولية المتواجدة فيها. لذلك لا بد من الإسراع في البحث عن السبل التي من خلالها يمكن تقويض إمكانات الفصائل المتشددة، حول قيامها بزعزعة الأمن والاستقرار في مناطق شمال وشرق سوريا، وضرورة البحث عن آليات لمحاكمة عناصر داعش المحتجزين في المنطقة لإفراغ السجون منهم.

 

المصدر: مركز الفرات للدراسات

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.