NORTH PULSE NETWORK NPN

الشرق الأوسط المحـ.ـترق: خرائط جديدة وكرد سوريا في قلب العاصفة.

 

الكاتب: الدكتور فرات ناصر الناصر

لم تعد الخرائط تُرسم على الورق، بل تُنقش بالنار فوق ركام معادلاتٍ بالية. المشهد الراهن في الشرق الأوسط يتجاوز التصعيد العابر؛ إنه احتراقٌ بطيء لترتيباتٍ عمرها عقود، وإعادة تشكيلٍ قسريّةٍ للحدود والنفوذ وفق منطق الصواريخ لا المواثيق. البيان الأخير لمجموعة السبع في كندا، الذي حمّل إيران مسؤولية عدم الاستقرار وأكد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها مع التركيز على منع السلاح النووي الإيراني، ليس سوى فصلٍ في سردية الصراع المتصاعد الذي تجاوز الحسابات التقليدية.

*تطور قواعد الاشتباك:

من النووي إلى الشريان الاقتصادي.

لم تعد المواجهة بين إيران وإسرائيل محصورةً في استهداف المنشآت النووية أو الاشتباكات بالواسطة. لقد انتقلت إلى مرحلةٍ أكثر خطورة تستهدف الأعصاب الاقتصادية والجيواستراتيجية:

1. استنزاف الإرادة الاقتصادية: الضربة الإسرائيلية المتعمدة لحقل “ساوث بارس” للغاز، التي عطلت إنتاج 12 مليون متر مكعب يومياً، كانت رسالةً واضحة: الحرب باتت تستهدف قدرة إيران على الصمود الاقتصادي، بهدف إجبارها على التفاوض من موقع الضعف.

2. الرد الإيراني المحسوب:

لم تكن ضربة مصفاة حيفا مجرد رد عسكري، بل إعلانٌ عن معادلة ردع جديدة. أثبتت طهران قدرتها على الوصول للعمق الإسرائيلي، محتفظةً بحق التصعيد إذا ما استُهدفت مصالحها الحيوية، مع الحفاظ على خيار الحرب بالواسطة عبر حلفائها.

3. توسيع ساحات المواجهة:

حوادث استهداف السفن في مضيق هرمز والسفارة الأمريكية في إسرائيل (بحسب التقارير) تذكر بأن ساحات الاشتباك قابلة للتمدد، وأن أي ضربةٍ عميقة قد تشعل جبهات اليمن ولبنان والعراق.

*المواقف الدولية:

تحذيرات وتخوفات. تتباين ردود الفعل الدولية تجاه هذا التصعيد الخطير:

* الولايات المتحدة:

تكرس التزامها الأمني المطلق لإسرائيل، وتطلق تحذيراتٍ صارخةً لإيران ضد المساس بمصالحها، مع تصعيد لغة التهديد العلني من وزير الدفاع.

* إسرائيل:

ترفع سقف أهدافها، جاعلةً منع أي تهديد نووي إيراني “عقيدة وجودية” غير قابلة للتفاوض، وقد تدفعها مواقف مثل بيان السبع إلى تصعيدٍ عسكري أوسع.

* روسيا والصين: تدعوان لضبط النفس، مع إدراك روسي خاص لخطر انفجار إقليمي قد يطال مصالحها في سوريا وغيرها. التخوف من حريقٍ يصعب إطفاؤه هو السائد.

* دول عربية (الخليج، مصر، الأردن): تعيش حالة استنفارٍ شديد، تركّز على حماية أمن الطاقة واستقرار ممرات الملاحة الحيوية، خشية تداعيات أي شرارة.

* دول أخرى (مثل أستراليا):

تتخذ إجراءات احترازية كإغلاق بعثات، دليلاً على تخوفٍ من انزلاقٍ لا يمكن السيطرة عليه.

*سوريا:

مسرحٌ مهمّش وحارسٌ وظيفي.

في خضم هذه العاصفة الإقليمية، تبرز سوريا المنهكة من الحرب كمثالٍ صارخٍ على إعادة تشكيل الأدوار:

* انهيار مركزية دمشق:

الحكومة السورية المؤقته في دمشق، بقيادة الجولاني، باتت خارج معادلة الحرب والسلم الإقليمية بشكلٍ شبه كامل. لقد تم اختزال دورها الوظيفي الحالي، بموافقة الأطراف الفاعلة إلى دور “الحارس”:

* حارس الحدود اللبنانية:

ضمان عدم تحول الجبهة مع حزب الله إلى نقطة اشتعالٍ غير محسوبة تضر بالمصالح الإسرائيلية.

* حارس الحدود العراقية:

محاولة الحد من تحركات فصائل الحشد الشعبي عبر الحدود أو أي نشاط لها محتمل عبر سوريا، لمساندة إيران في حربها ضد إسرائيل.

* الحكومة السورية المؤقتة:

تعاني من التهميش والضعف الشديد. وقدرتها على التأثير في الصراع الإقليمي أو حتى في الداخل السوري تكاد تكون معدومة. تقلص الدعم وتعقيد المشهد جعلها عاجزة عن تقديم بديل فعلي أو حتى إدارة المناطق الخاضعة لها بشكل مستقر، خصوصاً إنها ضحية مباشرة لانشغال حلفائها المحتملين (تركيا على وجه الخصوص) بالتداعيات الإقليمية للمواجهة مع إيران.

*القضية الكردية:

هامش من الصمود في بحر من الاحتراق. في ظل هذه المتغيرات العنيفة، يبدو وضع الكرد في سوريا، وخاصة في شمال شرق البلاد (روج آفا)، أقل ضرراً “نسبياً” في المدى المنظور، وفقاً لتحليل عدة عوامل:

1. البعد الجغرافي النسبي: تبعد مناطق الإدارة الذاتية الكردية عن بؤر التصعيد المباشر الحالية بين إسرائيل وإيران وحلفائهما الأساسيين (حزب الله في لبنان، الحوثيون في اليمن). .

2. عدم الاستهداف المباشر:

لا تشكل الإدارة الذاتية الكردية تهديداً استراتيجياً مباشراً لإسرائيل في سياق الصراع النووي أو الصاروخي الحالي. كما أن تركيا، رغم عدائها للمشروع الكردي، تركز جهودها العسكرية حالياً على الاستعداد تحسباً لأي توسع للحرب، خصوصاً وأنها هدف محتمل شبه مؤكد لإسرائيل بعد التخلص من البرنامج النووي الإيراني.

3. الاعتماد على الذات (نسبياً): طورت الإدارة الذاتية هياكل حكم وإدارة محلية، وإن كانت ليست بالمستوى المطلوب وتواجه تحديات اقتصادية وأمنية كبيرة.  إلا أن هذا البناء الذاتي، رغم تحدياته، قد يوفر قدراً من المرونة في مواجهة اضطرابات قد تعصف بالمناطق الأخرى الأكثر اعتماداً على مراكز القوى المتصارعة. قدرتها على إدارة موارد محلية.

4. توازن القوى الإقليمي: وجود القوات الأمريكية في شرق سوريا، رغم تراجع دورها الميداني في بعض المناطق، لا يزال يشكل عنصراً رادعاً ضد أي تحرك تركي واسع أو ضد محاولات إيران أو فصائلها الموالية لتوسيع نفوذها المباشر في تلك المناطق بشكل عنيف، مما يحفظ هامشاً من الاستقرار للكرد.

*المستقبل:

سيناريوهات على حافة الهاوية.

ثلاثة مسارات تبدو الأكثر ترجيحاً للمرحلة القادمة:

1. استنزاف اقتصادي ممنهج: استمرار الضربات الإسرائيلية لبنية إيران التحتية لدفعها نحو هدنة مؤقتة أو مفاوضات من موقع الضعف، مع تأجيل الحسم النووي.

2. انفجار إقليمي واسع:

أي خطأ في التقدير أو ضربة عميقة قد تدفع لفتح جبهات متعددة (اليمن، لبنان، العراق) مع احتمال تدخل أمريكي مباشر يتجاوز الدعم اللوجستي والعسكري غير المباشر لإسرائيل.

3. استمرار الحرب الباردة المحسوبة: تبادل ضربات محدودة ومؤلمة، مع إدارة متقنة للمخاطر من كلا الطرفين، بانتظار تغير الظروف الدولية أو فرض تسوية من قبل القوى الكبرى (روسيا، الصين، أمريكا) في لحظة استنزاف متبادل.

*الفرز الحاسم:

من يبقى على الخريطة.؟

النتيجة النهائية لهذا الصراع، سواء أكان انتصاراً إسرائيلياً ساحقاً، أو ترسيخاً لمعادلة ردع إيرانية جديدة، أو تسوية دولية مرهونة، ستحدد مصير جميع الأطراف الإقليمية:

* انتصار إسرائيل سيعني تفكيك شبكة النفوذ الإيراني الإقليمي وإضعاف الكيانات التي ارتكزت عليها، مثل الميليشيات في العراق وسوريا.

* تثبيت الردع الإيراني سيعيد رسم تحالفات المنطقة ويُبعد من لا يتوافق مع رؤية طهران.

* أي تسوية دولية ستسعى لشرق أوسط “مستقر” يُغلق فيه ملف الفوضى، وتُعاد ترتيب أولوياته حول أمن الطاقة والاستثمارات، غالباً على حساب القضايا المحلية كالديمقراطية وحقوق الشعوب، بما فيها الحقوق القومية للكرد.

* الخلاصة:

الشرق الأوسط يمر بلحظة فرز مصيرية. الحروب لا تحرق الخرائط القديمة فحسب، بل تحدد أيضاً من سيملك حق البقاء فاعلاً على الخريطة الجديدة، ومن سينزوي إلى هامش التاريخ. الكرد في سوريا، رغم هامش الصمود الواضح الحالي، ليسوا بمنأى عن رياح هذا التحول العاتية. مستقبلهم، كغيرهم، مرهونٌ بنقش النار على خرائط لم تجف بعد.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.