السلام الإبراهيـ.ـمي: دراسـ.ـة تحلـ.ـيلية شامـ.ـلة بين الطـ.ـموح السـ.ـياسي والمـ.ـخاوف الإقليمـ.ـية
* إعداد: الدكتور فرات ناصر الناصر.
*السياق التاريخي والجذور الفكرية.
ظهرت فكرة “السلام الإبراهيمي” كمحاولة لتجاوز المأزق التاريخي للصراع العربي-الإسرائيلي، مستندةً إلى خطاب ديني يزعم أن اليهود والعرب “أبناء إبراهيم”، وبالتالي فإن المصالحة بينهم ممكنة. هذه الفكرة ليست جديدة تمامًا؛ فقد سبق أن طرحتها دوائر صهيونية ليبرالية كجزء من مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي تبناه شمعون بيريز في تسعينيات القرن الماضي. ومع ذلك، فقد أُعيد إحياؤها رسميًا في أغسطس 2020 خلال عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بقيادة جاريد كوشنر، صهر ترامب والمهندس الرئيسي للاتفاق.
السياق الأبرز لظهور الاتفاق كان عزلة إسرائيل المتزايدة في المنطقة، ورغبة الولايات المتحدة في تشكيل تحالف موحد ضد إيران، إضافة إلى رغبة بعض الأنظمة العربية في الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية مقابل التطبيع. كانت الإمارات أول دولة تعلن التطبيع في عام 2020، تبعتها البحرين في العام نفسه، ثم المغرب أيضًا في 2020، وأخيرًا السودان في 2021. في المقابل، ظلت دول مثل السعودية وموريتانيا على مسافة مترددة، رغم الضغوط الأمريكية المتزايدة.
* الترويج الإعلامي وآلية التلاعب بالوعي.
كشفت تحليلات BBC عربي (2020-2023) عن حملة منظمة لترويج الاتفاق الإبراهيمي، اعتمدت على استراتيجيات دعائية متعددة، منها:
– استخدام الصور الرمزية، مثل نشر لقاءات بين بنيامين نتنياهو وقيادات عربية بطريقة توحي بـ”الانفراجة التاريخية”، كما في تغطية توقيع اتفاقية الإمارات وإسرائيل.
– إبراز الجوانب الاقتصادية كمدخل للتطبيع، عبر تقارير تُظهر “الفرص الاستثمارية” بين الدول الموقعة، بينما يتم تغييب الجانب السياسي للقضية الفلسطينية.
– الاعتماد على شخصيات عربية مؤيدة، عبر منصات الرأي في BBC عربي، لتقديم التطبيع كـ”ضرورة استراتيجية”.
من جانبها، حوّلت إسرائيل الاتفاق إلى أداة دعائية، حيث نشرت وسائل إعلامها صورًا لوفود إماراتية وبحرينية تزور القدس المحتلة، في محاولة لترسيخ صورة “القدس عاصمة موحدة لإسرائيل” في الوعي العربي.
*شروط الانضمام: الإغراءات الأمريكية والضغوط السياسية.
لم تكن هناك شروط واضحة ملزمة للدول الموقعة، بل مجموعة من “الحوافز” المرنة، منها:
– الدعم السياسي والعسكري الأمريكي، حيث وعدت الإدارة الأمريكية بتقديم مساعدات أو تسهيلات عسكرية للدول الموقعة، كما حدث مع الإمارات التي حصلت على صفقة طائرات F-35.
– الاستثمارات والتكنولوجيا الإسرائيلية، حيث روجت إسرائيل لفوائد التعاون في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والزراعة المتطورة.
– رفع العقوبات، كما في حالة السودان، الذي تم شموله بقائمة الإرهاب قبل إبرام الاتفاق، ثم أُزيل عنها بعد التطبيع.
لكن هذه الشروط لم تكن مضمونة، بل ظلت رهناً بتقلبات السياسة الأمريكية، مما يجعلها عرضة للتغيير مع تغير الإدارات في واشنطن.
*المخاطر على سوريا: بين الاحتلال والتقسيم.
في كتاباته، حذر محمد حسنين هيكل من أن أي مشروع للتطبيع يهدف إلى تفكيك الهوية العربية لصالح “شرق أوسطية” جديدة، تكون إسرائيل قطبها. وتظهر هذه المخاطر جليًا في الحالة السورية، حيث يُستخدم السلام الإبراهيمي كأداة لتعزيز التقسيم الدائم وتكريس الهيمنة الإسرائيلية عبر عدة مسارات:
- تكريس الاحتلال الإسرائيلي للجولان.
تحتل إسرائيل هضبة الجولان السورية منذ عام 1967، وفي عام 2019 أعلن ترامب الاعتراف بسيادة إسرائيل عليها. اليوم، يُستخدم السلام الإبراهيمي لتطبيع هذا الاحتلال عبر مشاريع اقتصادية مزعومة، مثل خطط الاستثمار في الزراعة أو السياحة، بينما يتم تجاهل المطالب السورية باستعادة الأرض.
2. اختراق الأمن القومي السوري.
يُسهّل التطبيع اختراق إسرائيل للمنطقة العربية عبر بوابة الاقتصاد والأمن، مما يقوض أي جهد عربي موحد.
3. إضعاف الموقف التفاوضي السوري.
مع تحول دول عربية إلى التطبيع، تفقد سوريا ورقة الضغط الدبلوماسية التي كانت تعتمد عليها في المطالبة بإنهاء الاحتلال أو دعم القضية الفلسطينية.
*السلام الإبراهيمي في ميزان النقد الفكري.
في موسوعته عن الصهيونية، يرى الباحث عبد الوهاب المسيري أن المشروع الصهيوني يعتمد على “إعادة تشكيل الوعي” قبل الأرض، وهذا ما يتجلى في السلام الإبراهيمي، الذي يحاول تحويل الصراع من قضية احتلال إلى مجرد “خلاف ديني قابل للحل”. أما الكاتب محمد حسنين هيكل، فكان يؤكد أن إسرائيل تسعى إلى “السلام كوسيلة للحرب”، أي تحقيق هيمنتها دون تقديم تنازلات حقيقية.
*مستقبل الاتفاق: بين النجاح المؤقت والانهيار.
ثمة ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل الاتفاق:
1. النجاح المؤقت: ببقائه حبرًا على ورق إذا لم تنضم إليه دول كبرى مثل السعودية، التي لا تزال تشترط حل الدولتين.
2. الانهيار: في حال تغير الإدارة الأمريكية أو حدوث انتفاضة شعبية في إحدى الدول الموقعة، كما حدث في السودان بعد الإطاحة بالبشير.
3. التوسع المحدود: بانضمام دول أخرى مثل موريتانيا أو عُمان، لكن دون تحقيق اختراق استراتيجي يغير موازين القوى. الخطر الأكبر هو تحوله إلى أداة لـتصفية القضية الفلسطينية. تحت شعارات دينية زائفة، بينما تظل إسرائيل ترفض أي حل عادل للفلسطينيين.
*خاتمة: سلام أم استسلام؟
السلام الإبراهيمي ليس سلامًا، بل هو إعادة هيكلة للتبعية العربية تحت مظلة الهيمنة الأمريكية-الإسرائيلية. والسؤال ليس هل سيدوم، بل ما الثمن الذي ستدفعه الشعوب العربية قبل أن تدرك أنه طريق مسدود. في الحالة السورية، يشكل الاتفاق تهديدًا وجوديًا، ليس فقط لاستعادة الجولان، بل أيضًا لوحدة البلاد وسيادتها. فبدلاً من أن يكون السلام خطوة نحو العدل، أصبح غطاءً لتمرير المزيد من التشتت والضياع للمستقبل السوري المنشود.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.