NORTH PULSE NETWORK NPN

السويداء… لحظة اختـ.ـبار لسوريا الجديدة على مفـ.ـترق الطرق

بقلم: الدكتور فرات ناصر الناصر
سوريا بين عهدين: سقوط نظام وولادة مأزومة.
خلال الأسبوع الأخير، شهدت سوريا فصلًا من أكثر فصول انقسامها الداخلي دموية وتعقيدًا، حين تحوّلت محافظة السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين قوات الحكومة الانتقالية تحت مسمى العشائر، والقوات المدافعة عن السويداء، وانتهى الأمر باندلاع اشتباكات غير مسبوقة، وتدخل إقليمي حاد، كان لإسرائيل فيه دور علني غير مسبوق في تاريخ الصراع السوري.
كان الحدث مفصليًا، ليس فقط في سياق العلاقة بين الدروز والدولة، بل في اختبار حقيقي لمستقبل سوريا كدولة يسودها القانون، لا منطق العصابة. سوريا اليوم تقف على مفترق طرق، إما أن تكون دولة مدنية حاضنة لكافة مكوناتها، أو تنزلق إلى دوامة جديدة من الحرب الأهلية والتفكك والتبعية.
منقذ أم طاغية جديد؟ صورة الدولة الفتية تهتز
منذ سقوط نظام الأسد نهاية العام الماضي، بدأ السوريون الذين عانوا من بطشه وحروبه في الحلم بولادة دولة جديدة تليق بتضحياتهم. دولة ترتدي ثوب المدنية، وتتحدث بلغة القانون والمواطنة.
ولكن، ومع تصاعد أحداث السويداء، التي ارتقت لمستوى جرائم حرب، وقبلها جرائم الإبادة” في الساحل السزري سقطت هذه الصورة المثالية بشكل مدوٍّ، حين أقدمت السلطة الانتقالية على إرسال قوات أمن إلى المدينة، بزعم توحيد مؤسسات الدولة، فكانت النتيجة اشتباكات دامية وانقسامات أعمق.
القوات المرسلة – والتي تألفت في معظمها من عناصر غير محترفة حديثي التدريب، محمّلين بخطاب عقائدي متشدد – أثارت حفيظة أبناء المدينة، خاصة مع استحضار صور تاريخية من زمن الشيشكلي والأسد الأب، حين كانت العلاقة بين النظام والدروز مشوبة بالتوتر والهواجس.
سوء الفهم الخطير حين تكون الحرب نتيجة دبلوماسية مرتجلة
في بداية الأزمة (مجازة الإبادة)، وصف وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ما جرى بأنه “سوء تفاهم”. ووفقًا لما رشح من تسريبات، طلبت السلطة الانتقالية من وفد إسرائيلي في باكو ضوءًا أخضر لبسط السيطرة على السويداء.
فُهم الضوء الأخضر على أنه تفويض بالقمع، لا بالتكامل الإداري، فاندفعت القوات إلى المدينة، مستغلة توترات بين الدروز والبدو.
إسرائيل، التي ترى في الجنوب السوري مجالًا استراتيجيًا حيويًا، وبالأخص فيما يتعلق بحماية الدروز ومنع التمدد الإيراني، اعتبرت التوغل عدوانًا، وقامت بردود عسكرية مباشرة، بينها قصف وزارة الدفاع خمس مرات، واستهداف القصر الرئاسي، وتهديد رأس الدولة الانتقالية.
تحول التدخل من “حرب الظل” إلى مواجهة مباشرة غير مسبوقة.
تاريخ السويداء… الجبل الذي لا ينحني
في قراءة للتاريخ السوري، لطالما كانت السويداء نقطة تحول في نشوء الأنظمة وسقوطها.
من الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش عام 1925 ضد الفرنسيين، إلى رفض أديب الشيشكلي واعتباره ديكتاتورًا، إلى احتجاجات 2011 ومقاطعة الخدمة العسكرية – السويداء لم تكن يومًا هامشية، بل مركزية في المشهد الوطني.
لم يدرك النظام الانتقالي هذا البعد التاريخي، وتعامل بمنطق الحسم لا الاحتواء، وبلغة القوة لا الحوار. فكان من الطبيعي أن ينفجر الموقف، وتبدأ الاشتباكات التي تحولت من مواجهة مع الدولة إلى نزاع طائفي بين الدروز والبدو.
خطاب السلطة… حين يغيب صوت الأب الجامع
في خضم التصعيد، خرجت السلطة الانتقالية بخطابات افتقرت إلى أي نزعة وطنية جامعة.
استخدمت لغة التخوين، ووصفت جزءًا من السكان بالمتآمرين.
هذا الغياب لخطاب “الأب الجامع” عزز الشعور بالمظلومية لدى أبناء السويداء، وأدى إلى حالة من الاصطفاف الطائفي، لم تسلم منها حتى بعض العشائر التي دفعت باتجاه مزيد من التعبئة، معتبرة نفسها خط الدفاع عن الدولة.
وهكذا، بدلًا من أن تصبح الدولة مظلة لجميع السوريين، باتت حليفًا لطرف في مواجهة طرف آخر من أبناء الوطن نفسه.
السويداء نقطة تحول في المشهد الجيوسياسي
لأول مرة، تتحول إسرائيل إلى طرف مباشر في صراع داخلي سوري.
ليس فقط من خلال الغارات الجوية، بل عبر التفاوض المباشر بشأن وقف إطلاق النار، وانتشار القوات، ونوعية الأسلحة.
الولايات المتحدة، من جانبها، رعت اتفاقًا لوقف إطلاق النار، وأرسلت إشارات واضحة بضرورة إعادة هيكلة الجيش السوري، وسحب المقاتلين الأجانب، واحتواء القوى المسلحة غير المنضبطة.
الرسالة الدولية كانت واضحة: لا عودة إلى ما قبل السويداء.
لا يمكن القفز فوق الداخل السوري مجددًا لصالح حسابات جيوسياسية فقط. وعلى النظام الانتقالي أن يدرك أن بناء الدولة يبدأ من الداخل، من إعادة الثقة، لا من السلاح.
ممارسات تُدين الدولة لا تُعززها
في الأيام الماضية، وقعت انتهاكات مروعة في السويداء وريفها: سحل جثث، إهانات لكبار السن والنساء، تعليق جثامين على السيارات.
هذه الممارسات الشنيعة وقعت بين مكونين من أكثر مكونات المجتمع السوري حساسية إزاء الإهانة: الدروز والعشائر.
وهي انتهاكات لا يمكن تبريرها، ولا التعامل معها بمنطق “الضرورات”.
ما زاد من خطورتها، أنها جاءت بعد تفجيرات في جرمانا وأشرفية صحنايا، وهجمات طالت الكنائس، ما أعاد إلى الأذهان شبح الحرب الأهلية المذهبية، التي تتهدد البلاد إن لم يتحرك الحكم بعقلية الدولة لا بمنطق العصابة.
فرصة لا يجب إضاعتها: المصالحة قبل أن ينهار الجسر الأخير
رغم الألم، ما تزال هناك فرصة للبناء، شريطة وقف شلال الدم فورًا، وبدء مسار عدالة انتقالية حقيقية، تشمل المحاسبة لا المساومة، والمصالحة لا الاستتباع.
يجب محاسبة مرتكبي الجرائم، بعد الإعلان عن نتائج تحقيقات الساحل والسويداء، وضمان عدم تكرار الانتهاكات، وتجنيب الجيش أي توظيف فئوي أو عقائدي.
إن النظام الانتقالي الذي يزعم تمثيل سوريا الجديدة، عليه أن يتصرف كنظام قانون، لا كسلطة ميليشيوية.
تعامل الحكومة حتى الآن، بمنطق العصابة لا الدولة، يهدد ليس فقط السلم الأهلي، بل شرعية الدولة الوليدة في نظر مواطنيها.
لا تتركوها تُنسى كسيناريو ليبيا والسودان
القلق العربي والإقليمي من تكرار النموذج الليبي في سوريا بات واضحًا.
التصريحات الأميركية، والتحذيرات الإسرائيلية، والاتصالات مع الأردن ولبنان، كلها تعبّر عن خشية حقيقية من انفجار جنوب سوريا، وما قد يترتب عليه من تمدد “داعش” مجددًا أو عودة إيران من النوافذ الخلفية.
لا يمكن ترك سوريا منسية. لا يمكن أن تكون ساحة لتجارب الخرائط والمصالح الخارجية فقط.
السويداء اليوم تُعلّم الجميع درسًا مهمًا: لا يمكن بناء وطن بالقوة.
لا دولة دون عدالة. ولا سلام دون شراكة.
خاتمة: من تحت الأنقاض… هل ينهض صوت الدولة؟
ما بعد السويداء ليس كما قبلها. لقد تغير ميزان الداخل السوري، وتكشفت هشاشة مشروع الدولة الجديدة.
لكن ما زالت هناك فرصة لتصحيح المسار، إن اختارت القيادة الانتقالية أن تكون راعية لكل السوريين، لا وكيلة لأطراف خارجية أو طموحات ضيقة.
صمت البنادق، وتثبيت وقف إطلاق النار، وإطلاق حوار حقيقي وشامل، هو البداية.
ثم يأتي دور العدالة والمحاسبة، وتنظيم الجيش، ووقف استيراد المقاتلين الأجانب.
لقد حانت لحظة الحقيقة… فإما أن تُبنى سوريا المستقبل على قيم الدولة، أو تعود إلى مربع الانقسام والتشظي، وتفقد كل ما حُلم به يوم صدحت الحناجر: “الشعب يريد إسقاط النظام”.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.