NORTH PULSE NETWORK NPN

تركـ.ـيا وسوريا: شبـ.ـكة الظلال والجـ.ـهاديون العـ.ـابرون للـ.ـحدود

الكاتب[ مهدي صادق أمين]

منذ اللحظة التي تغير فيها المشهد السوري، عقب ترنح النظام السابق وبروز تشكيلات مسلحة جديدة، كان الحضور التركي أكثر من مجرد تدخل سياسي أو عسكري. فقد بدا أن أنقرة، تحت قيادة جهاز استخباراتها القوي، كانت تعد أوراقها لما بعد الحدث، لا لما خلاله. والأهم، أن ما تم بناؤه في الخفاء صار الآن مكوّناً بنيوياً في المشهد السوري، يمتد أثره إلى ما وراء حدود الدولة السورية.

مقاتلون للساعة الصفر: كيف أعادت تركيا ترتيب المشهد الجهادي؟

مع سيطرة فصائل موالية لأنقرة على أجزاء واسعة من شمال سوريا، سارعت الاستخبارات التركية إلى استثمار هذا النفوذ لإعادة تشكيل وحدات قتالية غير تقليدية. لم يكن الهدف المباشر محصوراً بالمعركة على الأرض، بل توظيف تلك العناصر في صراعات مقبلة، قد تكون جبهتها خارج سوريا بالكامل.

وبحسب مصادر مطلعة تحدثت إلى موقع “نورديك مونيتور”، فإن خطط الاستخبارات التركية ذهبت إلى أبعد من مجرد دعم الفصائل المسلحة، لتصل إلى إنشاء خلايا نائمة من مقاتلين أجانب، جُهزوا للعمل كوكلاء في الخارج عند الحاجة. هؤلاء المقاتلون، ممن راكموا خبرات طويلة في القتال والتخفي والتفجير، تم تنظيمهم في وحدات صغيرة بخلفيات مموّهة، بانتظار لحظة التشغيل.

ثمانون ألف مقاتل… وأي جيش هو؟

لم يكن التصريح الذي أطلقه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في كانون الثاني الماضي عابراً، حين قال إن هناك مجموعات مقاتلة مقربة من تركيا تضم أكثر من 80 ألف عنصر. فالرجل، الذي قاد جهاز الاستخبارات لثلاثة عشر عاماً، لم يضع هذا الرقم جزافاً. على العكس، يبدو أن الرقم يعكس بدقة الحجم الحقيقي للقوة التي بنتها تركيا عبر سنوات من الاستثمار المنهجي في الملف السوري.

جزء كبير من هؤلاء تم إدماجه لاحقاً في “الجيش الوطني السوري” الذي ترعاه أنقرة، بينما بقيت وحدات أخرى تعمل ضمن تشكيلات جهادية أقل انضباطاً، لكنها أكثر طواعية عندما يتعلق الأمر بتنفيذ عمليات خارجة عن القانون الدولي.

من أفغانستان إلى دمشق: مسيرة جهادي في خدمة الدولة العميقة

في واحدة من أكثر الترقيات اللافتة في تاريخ الصراعات الحديثة، رُقّي عمر شيفتشي، المعروف بلقب “مختار الترك”، إلى رتبة عميد في الجيش السوري الجديد، بقرار رسمي صادر عن وزارة الدفاع في دمشق نهاية كانون الأول 2024. الرجل، الذي بدأ مسيرته في أفغانستان عام 2004، بات أحد أبرز رجال الاستخبارات التركية داخل هيئة تحرير الشام، وذراعها السياسي أحمد الشرع، المعروف بالجولاني.

شيفتشي ليس حالة فريدة. فبموجب القرار نفسه، تمت ترقية خمسة جهاديين أجانب آخرين، بينهم ألباني وطاجيكي وأردني وأويغوري، في خطوة بدت وكأنها توحيد لخط الجهاد العالمي تحت مظلة الدولة السورية الجديدة المدعومة من أنقرة.

حراس الدين… و”داعش” تحت المراقبة

لم تكتفِ أنقرة بهيئة تحرير الشام. فقد واصلت مراقبة وتجنيد عناصر من تنظيمات أخرى، بينها “حراس الدين”، المرتبط بالقاعدة، والذي تقدر أعداد مقاتليه بما بين 1500 إلى 2000 عنصر. ورغم الضربات التي تلقاها هذا التنظيم من القوات الأمريكية، والتي أسفرت عن مقتل قياديين بارزين، بينهم محمد يوسف ضياء تالاي (الملقب جعفر التركي)، إلا أن دوره في الخطة التركية لم يُطوَ بعد.

أما تنظيم “داعش”، الذي لا يزال يحتفظ بما بين 1500 و3000 مقاتل في الداخل السوري، فتم التعامل معه بحذر. لم يُندمج في الفصائل المدعومة رسمياً، لكن سُمح لبعض عناصره بالتحرك بحرية في مناطق النفوذ التركي، وربما استخدامهم كأدوات غير مباشرة في عمليات لا تُنسب لأنقرة.

الخرائط تتجاوز سوريا: الأويغور، الأوزبك، والقوقازيون في مسرح العمليات

اهتمام الاستخبارات التركية لم يكن محصوراً داخل الجغرافيا السورية. بل امتد ليشمل الجماعات الجهادية الأوروبية والآسيوية، في مشهد معقد متعدد الجنسيات. من “كتيبة الغرباء” الناطقة بالفرنسية، التي تجند من فرنسا وبلجيكا، إلى “أجناد القوقاز”، المكوّنة من شيشانيين وداغستانيين، وصولاً إلى حركات أويغورية متمركزة على الحدود الصينية، بدا أن أنقرة تجمع “جيشاً متعدداً” تحت عباءة الأمن القومي التركي.

الهدف لا يبدو آنياً. بل إن توظيف هذه الجماعات يجري عبر ما يشبه إدارة ممتدة لمسرح متعدد الحلقات، تحرّكه أنقرة وفق مصالحها ومواقف خصومها.

الحكومة المؤقتة… والحرب المؤجلة

أحمد الشرع، زعيم هيئة تحرير الشام والرئيس المؤقت لسوريا كما تصفه أنقرة، يبدو أنه يدير مرحلة انتقالية بكل ما تحمله الكلمة من غموض. خطابه أصبح أكثر قومية، وأقل جهادية. يحاول أن يحفظ المكاسب، ويتجنب التصعيد. لكن هذا لا يعني أن الهيئة قد قطعت علاقتها ببقية الفصائل المتطرفة. على العكس، فإن العلاقة باتت أكثر تنظيماً وسرية.

الهيئة توفر الملاذ والتدريب والدعم، لكنها تلتزم سياسة “الإنكار المقبول”. أي أن عمليات الخارج، إن وقعت، فلن تُنسب مباشرة للهيئة أو للحكومة المؤقتة، لكن مسارات التمويل والتدريب ستقود، حتماً، إلى إدلب.

من ملفات مسرّبة إلى أسئلة مفتوحة

وثائق سربها “نورديك مونيتور” كشفت أن الاستخبارات التركية كانت على علم بتدفق آلاف المقاتلين الأتراك إلى سوريا منذ عام 2011. إحداها، تعود إلى أيار 2019، تؤكد أن 4671 جهادياً تركياً عبروا الحدود حتى منتصف 2016. تم تسليحهم، تدريبهم، ونشرهم في جبهات مختلفة.

السياق الذي يجمع هذه الوقائع لا يمكن قراءته بمعزل عن سياسات أردوغان الداخلية والخارجية، حيث تحوّل جهاز الاستخبارات إلى ما يشبه ذراعاً موازياً للجيش والدبلوماسية، متجاوزاً حدود المهام التقليدية، ومحاكياً في عمله نماذج مثل فيلق القدس الإيراني.

خاتمة… الغاية ليست سوريا فقط

إذا كانت سوريا هي المسرح الأول، فإن الجمهور المستهدف لهذه العمليات قد يكون في عواصم بعيدة عن دمشق. من بروكسل إلى موسكو، ومن باريس إلى إسطنبول، يمتد الخيط بين ما يحدث في شمال سوريا وبين ما يمكن أن يحدث لاحقاً في قلب أوروبا أو آسيا الوسطى.

إن شبكات الجهاد المدارة استخبارياً لا تعمل وفق منطق “الحرب على الإرهاب”، بل تشتغل وفق منطق “استخدام الإرهاب”، وهذه معادلة مختلفة كلياً، وقد تكون أكثر خطورة من كل ما شهده الشرق الأوسط في العقدين الأخيرين.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.