NORTH PULSE NETWORK NPN

قّـ.ـوات سوريا الديمقراطّية من قـ.ـوة محلية إلى جهـ.ـة مؤثـ.ـرة في الفـ.ـضاء الدولي

بقلم: أ. محمد الجبوري

يقول ماكس فيبر في تعريفه المحكم للدولة: «هي الجماعة التي تتبّنى احتكار العنف الجسدي المشروع بنجاح في إطار حدود معينة»؛ وقد لا يبتعد الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز عن سابقه برؤيته التي يلخصها في كتابه اللفياثان، ومفادها أن «الدولة تنبثق نتيجة رغبة الإنسان الأناني بالأمان، ما يضطره إلى إبرام عقد اجتماعي تأتي بموجبه الدولة كي تدير الصراع بين الأفراد بطريقة تضمن لهم حياتهم».

لم يكن يسيراً على الدولة السوريّة الحديثة أن تأخذ مكانها الطبيعي وأن تنفرد بالإكراه الشرعي من خلال أجهزتها الرسمية حال قيامها. ويعود هذا إلى الوضع المعقّد الذي ورثته من الدولة العثمانّية، والتعقيدات التي تطّورت لاحقًا في كّل حقبة سياسّية مّرت بها الدولة في العصر الحديث، مع كّل تغيير سياسي عنيف شهده البلد، سواءً أكان بمرحلة الانقلابات العسكرية أم بمرحلة الصراع مع الإخوان المسلمين التي تلتها، أم بمرحلة التغييرات الأشّد عنفًا التي بدأت في مطلع العام ٢٠١١ وانتهت بالسقوط الرسمي للدولة السوريا بأيدي الإسلاميّين.

إنّ المقاربات التي انتهجتها الأنظمة السياسّية في أكثر الأحيان، وسط حالة من عدم التمييز في الوعي الجمعي بين الدولة والسلطة السياسّية، قد فاقمت مشاعر القلق والخوف من الآخر، وأضرت بالنسيج الاجتماعي، وقادت المجتمع السوري للانتقال من الموحّدات الكبرى المتمثلة أساساً بالدولة إلى أطر اجتماعية ضّيقة تمثلت في الِعرق والطائفة والدين، وازدادت عمقًا عقب تنامي الإيديولوجّية الدينية وسعيها إلى إيجاد حضور لها في المشهد السياسي مؤسّسٍ على هُوّية فرعّية للطائفة التي تستمّد نفوذها من التاريخ المضطرب. وعزّز ذلك زُّج الجيش في السياسة وجعلُه في موقع الظهير إزاء المواطن.

قّوات سوريا الديمقراطية البديل العابر للطوائف في شمال شرق سوريا

في سياقات شديدة الطائفية والتشرذم مثل سوريا، التحمت الجماعات المسلّحة حول انتماءات طائفية معّينة عّززت العلاقات بين وكلاء الأمن الجدد والمواطنين المحلّّيين، وأصبح جلًّياً أن أيّة قّوة تطرح نفسها مقابل الجيش بصفة حامية للإثنية لن تكون في موضع نفور جمعي إزاءها إذا لم تكن موضع ترحيب بها.

وفي طرح جديد يحاكي الضرورة السياسّية التي تمليها متطلّبات الظرف الراهن، جاء تشكيل قّوات سوريا الديمقراطّية بمدلولات عرقّية وعقائدية تعددّية استطاعت تعزيز فرص التوافق الدولي حولها، ودخولها بقّوة عنصراً مؤثراً في ساحة المشهد السياسي والعسكري السوري.

وانسجاماً مع التعاطي الدولي مع سوريا، الذي يرى فيها تهديدا أمنياً للمنطقة وساحةً يتنامى فيها الإرهاب، أطلقت قوات سوريا الديمقراطّية هدفها الرئيسي في محاربة الإرهاب، وقتال تنظيم الدولة (داعش) ووقف زحفه وتمدده، واستعادة الأراضي والمدن التي سيطر عليها التنظيم. ويأتي ذلك استمراراً لشراكة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية مع قّوات “وحدات حماية الشعب” وتعزيزاً للاستراتيجية الجديدة التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية وأجهزتها الاستخبارية والعسكرية في التصدي للتنظيم وملاحقته، والمضي قُدماً في دعم هذا التشكيل الناشئ ومساندته. علاوةً على ذلك، يسعى التشكيل الجديد إلى تعزيز مكانته ليغدو عنصراً مهمّاً وذا تأثير في أية تسوية سياسية مقبلة في سوريا من خلال نظام تعددي يكون الحكم فيه لا مركزياً، وهو النموذج الذي يسعى المجتمع الدولي إلى إقامته في سوريا مستقبلاً. وفي الوقت عينه، نجده يطرح قوات سوريا الديمقراطية بوصفها جسماً عسكرياً ذا مشروع سياسي قوامه العلمانّية ومدنيّة الدولة.

قسد والحرب على الإرهاب وأهم مصادر الدعم

فور الإعلان عن التشكيل، قّررت واشنطن تقديم أشكال الدعم المختلفة له؛ إذ كشف العقيد باتريك رايدر، المتحدث باسم قيادة القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، بعد يومين من إعلان تشكيل قسد، أن الولايات المتّحدة ألقت أسلحة لمقاتلين في شمال شرق سوريا للتصّدي لتنظيم الدولة، بينما قالت المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية أليسا سميث، بعد ساعات من إعلان تشكيل قّوات سوريا الديمقراطّية، إنّ عملية دعم للسوريين الذين سيقاتلون تنظيم الدولة قد بدأت.

وترى الولايات المتّحدة في قوات سوريا الديمقراطية القوة القتالّية الأكثر فاعلية على الأرض في مواجهة التنظيمات الإرهابّية. وقد رفعت مستوى المساعدات التي كانت تقَّدم لوحدات حماية الشعب منذ هجوم داعش على كوباني، وتمكن وحدات حماية الشعب من هزيمة داعش. هذا الانتصار الذي اصبح رمزاً للنضال الكردي في سوريا وخارجها، ولاحقا بعد تشكيل قوات سوريا الديمقراطيةّ جعل المساعدات الأمريكية أكثر فاعلية، متمثّلة بالدعم اللوجستي والاستخباري والتمهيد الجوي وصولاً لهزيمة داعش في آخر معاقله في ريف دير الزور عام ٢٠١٩ .

وفي سياق متّصل، قال عضو مجلس الشيوخ الفرنسي لورانس كوهين: إن فرنسا ستزيد دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) بسبب تواجد خلايا نائمة لتنظيم الدولة الإسلامّية (داعش) وفصائل المعارضة المسلّحة المدعومة من تركيا، المعروفة باسم الجيش الوطني السوري.

وفي وقت سابق، زار وفد من البرلمان ومجلس الشيوخ الفرنسي إقليم شمال شرق سوريا، وبحث مع المجلس العام للإدارة الذاتّية لشمال وشرق سوريا المشاريع الاقتصادية والتنموّية وتعزيز سبل التعاون.

وقال كوهين، في مؤتمر صحفي في دائرة العلاقات الخارجية بمدينة القامشلي شمال شرق سوريا، إن فرنسا تدعم قّوات سوريا الديمقراطّية، وإنها ستعمل على تقديم المزيد من الدعم لها محلياً ودولياً، لأّن «تنظيم داعش ما يزال يشكل خطراً». وأشاد عضو مجلس الشيوخ الفرنسي بمشروع الإدارة الذاتّية لشمال وشرق سوريا وجهودها لتحقيق السلام في المنطقة.

بدورها، قالت النائبة في البرلمان الفرنسي عن حزب الخضر والبيئة، ماري بوشون، إنّ فرنسا

ستدعم الكرد دائماً، لكن عليها تقديم المزيد من الدعم من خلال الاعتراف بالإدارة الذاتّية لشمال وشرق سوريا، والعمل على إيجاد حل للأزمة السوريا، وإعادة بناء سوريا جديدة.

وأكدت أنه «ينبغي على أوروبا الوقوف في وجه تركيا ووقف النفاق، وتحرير المناطق المحتلّة،

وإعادة النازحين من مناطقهم». كما تعهد بيير لوران، عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الشيوعي، بالعمل في فرنسا للتحقيق في جرائم تركيا.

كذلك، فقد «كثّف الفرنسّيون حضورهم العسكري والسياسي في مناطق سيطرة قّوات سوريا

الديمقراطية (قسد) شمال شرق سوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد، في محاولٍة لفرض تهدئة بين فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا من جهة وقسد من الجهة المقابلة، ليكون بمثابة عامل ضغط يدفع باتّجاه تشكيل حكومة سورية جامعة تمثل أطياف المجتمع السوري كافّةً».

يمكن اعتبار نجاح قوات سوريا الديمقراطية في محاربة الإرهاب وحفظ الأمن بمثابة الداعم الرئيسي لنيل الشرعية، سواء على الصعيد الدولي أو على الصعيد المحلّي؛ وأن هذا النجاح مستمّد من قّوة مؤسّسيّة وتنظيميّة اكتسبها مقاتلو قسد عبر سنوات من الخبرة في القتال والتنظيم منذ اندلاع الحرب عام ٢٠١١.

واليوم، تواجه الإدارة الذاتّية لشمال وشرق سوريا تحدياً جدياً في توفير الخدمات، بالرغم من

الإمكانيات المتواضعة؛ إذ يعتبر توفير الخدمات الأساسية عاملاً رئيساً في بناء الشرعية المحلية، لا سيما أن «جميع الإيديولوجّيات تسقط أمام رغيف الخبز»، على حدّ وصف أحد النشطاء لدى إشادته بقدرة الإدارة الذاتية على النهوض بأعباء الحكم بعد انحسار سلطة الدولة ومؤسّساتها.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.