الكاتب: فرات ناصر الناصر
من صلابة العقيدة إلى سلطان التقنية
لم تُلغِ العقائدُ حضورَها في مشهد الصراع؛ ما زالت تغذّي المعنويات وتمنح معنى للتضحيات. لكنّ مجريات الميدان تثبت أنّ ميزان الحسم انتقل إلى فضاءٍ آخر: طائراتٌ مسيّرة دقيقة، منظوماتُ رصدٍ وحربٍ سيبرانية، أقمارٌ اصطناعية، وذكاءٌ اصطناعي ينسّق بين النيران والمعلومة. إيران وحزب الله والنظام السوري ظلّوا يستثمرون في التعبئة الرمزية، غير أنّ مسرح العمليات يكشف كلّ يوم أنّ العقيدة — بوصفها سرديّة — لا توقف قنبلةً ذكيةً عن بلوغ غرفة عمليات تحت الأرض. إنّنا أمام انتقال السلطة من «الشعار» إلى «الخوارزم».
غزة ومختبر الحرب التقنية
حماس حافظت على سرديّة مقاومة متجذّرة شعوريًّا داخل غزة. لكن الحرب الأخيرة عرّت حقيقةً جارحة: الساحة تحوّلت إلى مختبر تقني محض. الأنفاق، والصواريخ المحليّة، ومحاولات الالتفاف بالطائرات الشراعية، كلّها عبّرت عن مرونة مبتكرة، لكنها اصطدمت بقدرات تتفوّق كمًّا ونوعًا في الاستطلاع والتشويش والضربات الموجّهة واتّساق «حلقة القتل» بين المستشعر والرامي. البطولة الفرديّة تُلهم، لكن من يمتلك السيادة على الداتا والمجال الكهرومغناطيسي يحسم وتيرة المعركة واتجاهها.
العقل العملي الجديد: التكنولوجيا حَكَمٌ أعلى
الأيديولوجيا اليوم «وقود معنوي»، أمّا «حَكَمُ» الميدان فهو التكنولوجيا: من يعرف أكثر يسبق أكثر؛ ومن يدمج المعرفة بالسلاح الذكي يصنع التفوّق. الشرعية العسكرية لم تعد تُقاس بصلابة الخطاب، بل بقدرة المنظومة على تحويل المعلومة إلى قرار، والقرار إلى أثر، بأقلّ كلفةٍ بشرية ممكنة — أو هذا ما يدّعيه من يمتلك الأداة.
سورية بين خطاب أيديولوجي وتقهقر معرفي
في دمشق، بقي خطاب السلطة يتشدّق بمرتكزاتٍ هُويّاتيّةٍ مُستنزَفة، فيما المجتمع يتراجع خارج السياق العلمي والحضاري للعصر. ليست المشكلة في «وجود عقيدة» بل في «تحويلها إلى قيدٍ على العقل والأداة». وحين تنفصل الدولة عن المعرفة، تتحوّل المؤسّسات إلى أطرٍ أمنية بلا مشروع وطني؛ ويُدفَع المجتمع إلى هامش التاريخ، حيث تُعاد تدويرُ نزعات ما قبل الدولة وتُشرعن الغلبة بوصفها سياسة.
قواتُ سوريّةَ الديمقراطيّة: شرعيّةٌ وطنيّة من معركة حماية المجتمع
لا يمكن قراءة مواجهة «داعش» من دون تثبيت حقيقةٍ مركزية: قوات سورية الديمقراطية خاضت، مع حلفائها المحليّين، معركةً طويلةً لمنع تمدّد التوحّش إلى المدن والقرى، وقدّمت ثمنًا بشريًّا فادحًا — بين شهيدٍ وجريح — قُدِّر بعشرات الآلاف في مجمل الكلفة الاجتماعية للقتال. هذه المواجهة، التي انطلقت من واجب حماية المدنيين وصون السلم الأهلي، منحت الـ«قسد» شرعيةً عمليّة نابعةً من أداء وظيفةٍ سياديّة جوهرية: تفكيك منظومة إرهابٍ عابرةٍ للحدود وحماية المجتمع من استباحة الحياة والكرامة. في منطق الدولة، الشرعية ليست شعارًا؛ إنّها حصيلةُ حماية الناس وتأمين الأمن العامّ والحقوق الأساسية.
سلطانُ التوحّش… وأرقامُ العنف ومعانيها
في السنواتُ الأخيرة ضمن البادية السورية وشمال البلاد. الأرقام — أيًّا تكن منهجيّات إحصائها — تشير إلى نمطٍ متواتر من الهجمات والكمائن والاغتيالات. لكن الدرس الأهم ليس العدّ ذاته، بل دلالةُ التواتر: حين تُفرَغ الجغرافيا من مؤسّسةٍ أمنيةٍ مهنيّةٍ خاضعةٍ للقانون، يملأ الفراغَ «رأس مالٍ ميليشياوي» يستثمر في الخوف. في إدلب، قدّم تنظيم «هيئة تحرير الشام» نموذجًا لتوتّرٍ بنيوي: خطابٌ دينيّ مُتشدّد يَعِدُ بالنظام والفضيلة، وممارسةٌ يومية تُنتج اقتصادَ جبايةٍ وقمعًا وتعطيلًا للمجال العام. التناقض ليس عرضًا؛ إنّه نتيجة لافتقار مشروع «السلطة الجهادية» إلى بنية دولةٍ حديثة تُحيل القوة إلى قانونٍ لا إلى ولاء.
تجربةُ حزبِ الله: بين أيديولوجيا المقاومة وتحديث أدوات الصراع
لا يجوز إسقاط تجربة حزب الله من التحليل. لقد راكم الحزب خبرةً نوعية في الحرب الهجينة: مزج الانضباط العقائدي بتحديثٍ متدرّج في الرصد والاتصالات والطائرات المسيّرة وقدرات النيران الدقيقة. أثّرت تلك الخبرة في معادلات الردع، كما حملت كلفةً اجتماعية وسياسية باهظة — خصوصًا بعد انخراطه في الحرب السورية وما استتبعه من إعادة تعريفٍ لصورة «المقاومة» في المخيال العربي. الدرس المركّب هنا أنّ الأيديولوجيا، لكي تبقى فاعلة، تضطرّ إلى التحديث التقني والتنظيمي؛ وحين يتقدّم الميدان على السياسة، تتبدّل توازنات الشرعية والقبول الشعبي.
منطقُ الدولة: خطابُ قائدٍ يشتقّ المستقبل
ليس المطلوب «مصالحةً» بين علمانيةٍ وجهادية، بل استعادة الدولة بوصفها عقدًا مواطنيًّا ومأسسةً للمعرفة والقوة. خطابُ رجل الدولة اليوم يجب أن يقول بوضوح:
نبني شرعيةً على حماية الإنسان لا على استنزافه؛ أمنٌ مهنيّ خاضع للقانون، لا أمنٌ مُسَيَّس.
نطلق برنامجًا وطنيًّا للتقنية والدفاع: قطاعٌ مدنيّ/عسكريّ للابتكار، صناعاتٌ خفيفة وازدواجية الاستخدام، ومراكزُ بياناتٍ وطنية تحترم الخصوصية وتخدم القرار العام.
نستثمر في التعليم العالي والتكوين المهني لتحويل الجامعات والمعاهد إلى محرّكات نموّ، لا إلى ملحقاتٍ بيروقراطية.
نعتمد لامركزيةً إداريةً رشيدة تصون وحدة البلاد وتمنح المجتمعات المحلّية أدواتِ إدارة خدماتها.
ننظّم شراكاتٍ أمنيةً محليّة مسؤولة مع القوى التي أثبتت دفاعها عن المدنيين، على قاعدة القانون ووحدة المؤسّسات.
نطلق مسار عدالةٍ انتقالية يضمن كشف الحقيقة، جبر الضرر، وعدم تكرار الانتهاكات، مع برنامج تعافٍ اقتصادي يركّز على البنية التحتية والعمل المنتج.
هكذا فقط يُغلق باب الفوضى وتُستعاد السياسة من قبضة السلاح.
في معنى الشرعية والأمن المدني: قراءةٌ تحليلية
من دون استدعاء مراجع بعينها، تُجمِع الخبرة التاريخية والعقل العملي على ثلاث قواعد:
1. لا أمن بلا دولة تحتكر السلطة الشرعية وتجعلها خاضعةً للقانون والرقابة. الجماعات العقائدية — أيًّا كان شعارها — لا تعوّض مؤسسةً عامّة تُحاسَب باسم المواطنين.
2. لا شرعية بلا مواطنة: مصدر القبول العام ليس الخطاب الهويّاتي، بل قدرة الحكم على حماية الحقوق، وتقديم الخدمات، وتمكين المشاركة، ومأسسة التداول السلمي على السلطة.
3. لا سيادة بلا معرفة وتقنية: من لا يمتلك سلاسل القيمة في التعليم والبحث والتصنيع والبيانات، يظلّ تابعًا لميزان قوى خارجي يُملي الإيقاع.
ومن ثمّ، فطريق الخروج من الاستعصاء السوري ليس في إعادة تدوير أيديولوجيات مُتخاصمة، بل في عقدٍ جمهوريّ جديد يمزج الوطني بالمدني، والأمن بالحق، والتقنية بالمصلحة العامّة. عندها فقط تُهزَم «سلطنة التوحّش» لا بالشعار بل بتفوّق الدولة العادلة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.