NORTH PULSE NETWORK NPN

أصدقاء الأمس خصوم اليوم

أمل عبد العزيز الهزاني _ نورث بالس
أحمد داود أوغلو، رئيس وزراء تركيا السابق، الرجل الأكثر دهاءً داخل دائرة أصدقاء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، عندما قرَّر الانشقاق عن صديق الرحلة، كان يعرف إردوغان أن يوماً ما سيكشف أوغلو مهندس السيناريوهات الشعبوية، وعلى مراحل أسراراً دفينة، وسيفتح الصندوق الأسود وسيظهر المستور على الملأ. أحمد أوغلو ليس عبد الله غُل الحكيم، إنه الرجل الطموح صاحب دكاكين الأسرار التي صنعت شعبوية مزيفة للرئيس، الذي استطاع بجدارة هدم كل ما بناه خلال 12 عاماً، وأولها نموذج تركيا المعتدلة صاحبة الخصومات الصفرية.
أوغلو ليس على عجلة من أمره في كشف حقيقة زيف الشخصية الإردوغانية الطامعة، التي دفعته حتى لتهميش رفقاء النجاح، وتقزيم أدوارهم بعد أن ارتقى على ظهورهم. وحتى نفهم الأثر الكبير لحماقته في خسارة أصدقائه المخلصين، انظروا إليه اليوم، متخبطاً بين تداعيات مغامراته الطائشة، وكلما شعر أن قدمه تنزلق في مكان، قفز إلى منزلق آخر حتى وجد نفسه في حقل من الحفر الوحلة.
إحدى القصص الشعبية التي كشفها أوغلو عن صديقه الجحود، الموقف الشهير لإردوغان في منتدى دافوس عام 2008، حيث كان على منصة الحوار مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، ودار نقاش بينهما حول الحرب على غزة في تلك الفترة. إردوغان اتهم إسرائيل بقتل الأطقال وطالب بأن تكون حركة «حماس» منخرطة في العملية السياسية، وهي الحركة التي يراها الغرب إرهابية. رد عليه بيريز مدافعا عن الموقف الإسرائيلي: ماذا لو كانت الصواريخ تسقط كل ليلة على إسطنبول؟ وعندما أراد بدوره الرد لم يمنحه مدير الجلسة وقتا كافيا فجمع أوراقه ووقف محتجا قائلا إن المنتدى انتهى بالنسبة له ثم خرج. بعدها ثارت زوبعة كبيرة ليس في تركيا وحدها التي استقبلته جماعته فيها استقبال الأبطال، بل حتى في الشارع العربي ذي الميول الإسلاموية وخاصة من جماعة «الإخوان المسلمين». كانت حملة دعائية ممتازة لصالح إردوغان، ونتذكر كيف كان المحسوبون على جماعة «الإخوان المسلمين» من العرب يعايرون حكام الدول العربية بأنهم لم ولن يجرؤوا على ما قام به إردوغان البطل، وأنه الوحيد الذي ألجم رئيس دولة إسرائيل في منتدى كبير تحت نظر العالم.
هذه المسرحية التي أداها إردوغان على المسرح كشف حقيقتها مؤخراً كاتب السيناريو أحمد داود أوغلو. ببساطة، وقف أمام مؤيديه قبل أيام مستذكراً الحادثة. قال إنه قام بعملين متضادين؛ الأول أنه اتصل تلك الليلة بشمعون بيريز من هاتفه ليتمكن إردوغان من الاعتذار له! ولماذا من هاتفه؟ على اعتبار أنه مستشار الرئيس الخاص ومن الطبيعي حصول اتصال من المستشار على أي فرد كان. اعتذر رجب طيب إردوغان لشمعون بيريز في تلك الليلة، وخرجت وكالة الأناضول في اليوم التالي تقول إن بيريز اتصل على إردوغان معتذراً! ونفت الرئاسة الإسرائيلية نفياً قاطعاً هذه الرواية.
الأمر الآخر الذي فعله أوغلو من الجانب الآخر، أنه كتب بنفسه وهو في الطائرة في طريق عودتهم إلى إسطنبول خطاباً موجهاً للشارع التركي والعربي: (على الأطراف الأخرى التفكير فيما تعتقد تركيا، ومن الآن فصاعداً لن نتصرف بناء على ما يقوله هذا البلد أو ذاك).
أوغلو مدرك أن إردوغان اختار المنهج الشعبوي ليكسب تعاطف الشارع العربي، وهو يعزف على تاريخ البطولات والفتوحات الإسلامية القديمة التي انتهت مثلما انتهت بطولات غيرهم من الأقوام والحضارات الأخرى الأكثر قوة ومجدا. لكنه وجد أذاناً مصغية من الشارع العربي المتعطش تطرب لهذا التاريخ، وتنتشي بسرده، فملأهم بالدراما التاريخية، والخطابات الشعبوية حتى صدقوا أنه المخلّص المنتظر.
ولا شك أن إردوغان نجح نجاحاً كبيراً في خلق قاعدة شعبية له داخل طيف واسع من العرب على هذا الأساس. لكنه طار وارتفع حتى وصل لأعلى نقطة يستطيع فيها التحليق بهذه الشعارات، وعليه أن يتأهب لانعكاس الاتجاه ضده، ليس من أوغلو فحسب. علي باباجان الذي انشق هو الآخر وقد كان وزيرا للاقتصاد يقول إن إردوغان تسلم بلداً كان يقرض الصندوق الدولي، والآن يمد يده للشعب للتبرع عبر حساب مصرفي! أما محافظ البنك المركزي السابق دورموش يلماز فقام بتكذيب إردوغان الذي قال إن البنك الدولي طلب قرضاً من تركيا بقيمة 6 مليارات دولار، وقال: من الصعب عليّ استخدام كلمة كبيرة، لذلك سأكتفي بالقول إن هذا كذب…
الليرة التركية اليوم تساوي 7.39 دولار في هبوط قياسي، خلال قراءة هذه الساعة. ولأن الأموال القطرية التي يبتزها إردوغان من النظام القطري لا تكفي للنهوض بالاقتصاد المنهار، اتجه إردوغان إلى التنقيب في مياه قبرص عن الغاز، يصول ويجول منذ أشهر أمام مرأى ومسمع من دول الاتحاد الأوروبي، حتى تدخلت الولايات المتحدة مؤخراً معلنة مشاركتها قبرص في عمليات التنقيب، وهنا وضعت واشنطن علامة «ممنوع الاقتراب» بالنسبة لإردوغان. بقيت أمامه أموال ليبيا، التي يجتهد في الحصول عليها عبر شركاته المشغلة للموانئ بعدما تأخر دخول مدينة سرت النفطية.
باختصار، اختار إردوغان الدخول إلى الغابة السوداء، بكل مخاطرها طمعاً في الهتافات وإشباع الذات المتعالية، رغم أن الطريق الآمنة لم تكن بعيدة، وأقوى من سيواجه هم خصومه في الداخل، حيث يمثل كل منهم قوة لا يستهان بها، وأدوات ستكون سلاحاً ضد بالون إردوغان.
صحيفة الشرق الأوسط

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.