الدكتور فرات ناصر الناصر
تمر سوريا في اختبار وجوديّ نادر القسوة، فالنّظام القائم بآلياته القمعيّة الاستثنائية وتماسكه فوق ركام الوطن، يستحيل عقلياً أن يكون مصيراً دائماً لشعب عريق، وفي الوقت عينه، فإنّ انهياره المفاجئ دون بنى بديلة راسخة يهدّد بإغراق البلاد في فوضى تفوق تعقيدات الحرب ذاتها، نحن إزاء معادلة استحالة مزدوجة: بقاء لا يُحتمل، وسقوط لا يُتحمل تبعاته.
هذا الكيان الذي تشكّل في دمشق ليس مجرد دكتاتورية تقليدية، إنّه نموذج شمولي فريد، متشحاً بجلود أيديولوجية متجددة، يستعير قسوة “ولاية الفقيه” الإيرانية في بنيتها العميقة، لكنّه يضفي عليها طابعاً سلفياً جهادياً يجعل من العنف عقيدة دولة، ومن الطائفية أداة حكم، إنّه أقرب إلى “نازية إسلامية” بمعنى ما، تقدّس الكراهية والقوة الغاشمة، لكنّها وبمفارقةٍ تاريخيّةٍ صادمة، تلقى اليوم قبولاً دولياً، بل أمريكياً، كمّن شروراً أخرى!
المجتمع السوري المُثقل بسنين القهر والتمزّق والتهجير، يبدو عاجزاً عن إنتاجِ مقاومة جماعية فاعلة لهذا الوحش الشمولي. التعب عميق، والهويّات الفرعية باتت أخطر من حس المواطنة المشتركة، فشلٌ مجتمعي في مواجهة آلة الاستبداد الهائلة. ومع هذا الظلام الكثيف، تبرز في الشمال الشرقي شرارة تستحق التأمّل، إنّها التجربة الكردية في روج آفا. ليست هذه الشرارة مشروعاً انفصالياً أرد خصومها شيطنة الفكرة لتشريع محاربتها من خلال هذا الاتّهام، بل هي نموذج حكم محلي حاول رغم شح الموارد وحصار الجوار أن يبني على أسسٍ إنسانيةٍ وديمقراطية ملموسة، جسّدت ولو نسبياً إدارة تشاركية لا مركزية، حافظت على نسيج مجتمعي متعدد الأعراق والأديان، ورفعت شأن المرأة في الحكم والأمن والمجتمع، محاولةً القطع مع ثقافة “السواطير” وعقيدة الدّم التي استباحت سوريا من خلال جرائم الإبادة الجماعية بحق العلويين والاعتداء على باقي الأقليات بالقتل والاغتصاب والسبي والتهجير، شاهد حي على كل هذا الخراب الذي نحن فيه اليوم، ومن الطبيعي التحرّك وفق دعوة عملية وليست شعاراتية لسوريا علمانيّة مدنيّة، تعترف بتنوّعها كغنى، وتوزع السلطة كضمانة للعدل والاستقرار.
نعم، النفق طويل ومظلم، ولا ضوء مرئياً في نهايته الآن، لكن الاستسلام للقدر المحتوم ليس خيار شعب أراد الحرية ذات يوم. الأدوات الحقيقية للتغيير لا تكون عبر الشعارات البعثية البالية ولا خطابات “المقاومة والممانعة” الزائفة التي غطت على فساد نظام الأسد المخلوع ووحشيته، الأدوات تتجسّد في إعادة بناء الثّقة بين السوريين، وفي الاعتراف المتبادل، وفي تبني نموذج الدّولة العلمانية اللامركزيّة كبديل حضاري عن الاستبداد المركزي أو الفوضى الطائفية.
سوريا لن تُبعث من رمادها بقرارات خارجية، ولا ببقاء نظام أفلس إنسانياً وأخلاقياً، وأصبح كياناً دينياً منغلق على من حوله من حملة السواطير باسم الدين. سوريا الجديدة، سوريا الفينيق، ستقوم فقط عندما يقرّر أبناؤها أن يبنوها من جديد على أسسٍ تليق بتضحياتهم: دولة المواطنة المتساوية، دولة العدل والحريّة، دولة اللامركزية التي تحترم خصوصيات الجميع وتوحّدهم تحت عقد اجتماعي جديد. هذا هو التحدي الأكبر، وهو الطريق الوحيد للخروج من ركام النّفق إلى فضاء الوطن.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.