NORTH PULSE NETWORK NPN

الشرق المتحـ.ـوّل ديموغـ.ـرافيًا: حين يصبح الإعجاب بالغـ.ـازي غطاءً للتحـ.ـوّل السكاني

 

 

نورث بالس

الدكتور فرات ناصر الناصر

 

في لحظات التشظي السياسي وفقدان المركز، غالبًا ما تتسلل مشاريع الإحلال السكاني وتبديل الهويات، لا كخطط استعمارية صريحة، بل كامتداد للفراغ الذي تخلفه الدول حين تنهار، والجماعات حين تستهلكها سرديات الخلاص. ودول المشرق العربية، اليوم، ليس استثناءً.

من سوريا إلى العراق، نشهد أمام أعيننا إعادة تركيب ديموغرافي بأدوات تبدو في ظاهرها إنسانية، لكنها في جوهرها سياسية واستراتيجية. في شمال سوريا، وتحديدًا في مناطق ريف حلب وإدلب، تشير تقارير أممية وحقوقية إلى عمليات تهجير قسري طالت السكان الكرد والعرب، وأعقبها إسكان أسر مقاتلين قادمين من آسيا الوسطى، ولا سيما الإيغور والتركستان، ضمن سياسة توصف بأنها “هندسة ديموغرافية مقنّعة”.

 

• مشهد يتكرر: من جسر الشغور إلى عفرين

لم تعد هذه المشاهد استثناءً، بل أصبحت قاعدة. فقد أشارت دراسة للمركز السوري للعدالة والمساءلة عام 2021 إلى أن “الحزب الإسلامي التركستاني” أسس وجودًا منظمًا في منطقة جسر الشغور، حيث بُنيت مدارس دينية مخصصة للناطقين بالتركية، وفرضت أعراف اجتماعية غير مألوفة على البيئة السورية المحلية. هذه التحولات ليست فقط سكانية، بل ثقافية وهوياتية بالدرجة الأولى.

صحيفة المدن اللبنانية وثّقت، في عدة تقارير، ظاهرة تجنيس وتوطين أسر أجنبية قاتلت ضمن فصائل المعارضة السورية، مستفيدة من الحماية التركية المباشرة، بخاصة في مناطق مثل عفرين وتل أبيض (كري سبي)، حيث شهدت عمليات نزوح منظمة للسكان الأصليين منذ عام 2018، وفق ما أكده “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.

 

• في قلب الغوطة، بعد أن سكت القصف

أما الغوطة، التي شهدت واحدة من أبشع حملات الحصار والقصف الكيميائي في العصر الحديث، فقد بدأ الحديث – وإن بخجل – عن “فرص استثمارية” قادمة من جهات غير سورية، مرتبطة بإعادة الإعمار، ما قد يُستخدم كبوابة لإعادة توزيع الملكية والإقامة فيها. وتحذر دراسة صادرة عن المعهد السويدي للشؤون الدولية (SIPRI) من أن مشاريع إعادة الإعمار في سوريا قد تستخدم كأداة لإعادة تشكيل البنية الديموغرافية بشكل دائم، لا سيما في الضواحي المحيطة بدمشق.

 

• هل هذا جديد على التاريخ العربي؟

قطعًا لا. تعود جذور هذه السياسات إلى ممارسات استعمارية قديمة، كما في تجربة المماليك، أو لاحقًا مع سياسات التتريك والتعريب في العهدين العثماني والبعثي، أو حتى في المشاريع الصهيونية في فلسطين. كما يستدعي المشهد السوري الحالي مقارنة مباشرة بما جرى في البوسنة والهرسك مطلع تسعينيات القرن الماضي، حين تم استخدام الحرب كوسيلة لتغيير التركيبة السكانية.

لكن ما يجعل الواقع السوري أكثر خطورة هو التباس المواقف: بعض هذه التغييرات تتم تحت رايات إسلامية، وشعارات الثورة، فتكتسب شرعية شعبية زائفة، وتغيب عنها المساءلة.

 

• مواجهة الذلّ الطويل

في ظل هذا الواقع، يصبح الخطر الأكبر هو تطبيع الظاهرة. حين يُستبدل الوعي الجمعي بالإعجاب بالغازي، ويُختزل التحرير في إعادة توزيع الولاء الطائفي أو القومي أو الجغرافي، فإن ما ينتظر المنطقة ليس فقط ضياع الأرض، بل تآكل معنى الوطن ذاته.

الذلّ، كما نعرفه من تجارب شعوبنا، لا يهبط فجأة، بل يتسلل عبر التصفيق والتغاضي والرضا المؤقت. وما يُزرع اليوم في إدلب والغوطة وعفرين، قد يحصد السوريون ثماره المريرة بعد سنوات، حين يُسائلهم أبناؤهم: كيف صمتّم على هذا التغيير، ومن منح الغرباء حقّ الإقامة في التاريخ؟

 

نورث بالس

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.