المأزق السوري بين مركزية السلطة ونداء الشراكة الكردية
الكاتب: الدكتور فرات ناصر الناصر
استكمالًا لتنفيذ الاتفاق الذي وُقِّع في 10 آذار/ 2025 بين حكومة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، وبوساطة أميركية وفرنسية، عُقد لقاء جديد في دمشق، يوم الإثنين 7 تموز/ 2025، ضمّ وفد قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية من جهة، وممثلين عن حكومة دمشق المؤقتة” من جهة أخرى.
وفي مشهدٍ اختلطت فيه الرموز السياسية بالرسائل المبطّنة، ظهرت صورة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ملوّثةً على لوحة دعائية للسلام في قلب العاصمة دمشق، بينما كانت وفود “قسد” والإدارة الذاتية تصل إلى المدينة لاستئناف ما وصفته وسائل إعلام مستقلة بـ”جولة اللاتفاوض”.
هذا الاجتماع أثار موجةً واسعة من التفاعلات على وسائل التواصل الاجتماعي، تراوحت فيها المواقف بين تفاؤلٍ مصطنع بظهور “الدخان الأبيض” من قصر تشرين، وتشاؤم مرير حيال إمكانية فرض تسوية من الأعلى، تمليها ترتيبات أميركية–إقليمية، يقودها مبعوث واشنطن توماس باراك، الذي بدا أقرب إلى متحدث باسم دمشق منه إلى وسيط دولي نزيه.
وقد اتسمت تصريحات باراك بقدر كبير من التذبذب، يُشبه في جوهره مناورات رجال الأعمال في صفقات غير مُلزمة، أكثر من كونه خطابًا دبلوماسيًا رصينًا. ففي الوقت الذي يعلن فيه دعم بلاده لـ”دمج قسد في مؤسسات الدولة السورية باحترام”، يتبنّى، في المقابل، الخطاب الرافض لأي شكل من أشكال اللامركزية، ويلقي باللائمة كاملة على “قسد” في تأخير تنفيذ الاتفاق، متجاهلًا إخفاق حكومة دمشق في الالتزام بالبنود الجوهرية، من إعادة المهجّرين إلى ضمان الحقوق الدستورية.
هذه الازدواجية تضعف الثقة بالدور الأميركي، وتُقوّض إمكانية بناء مسار سياسي جاد ومستدام.
وفي لحظة تُعدّ مفصلية في التاريخ السوري الحديث، حيث يغيب الرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، عن واحد من أهم الاجتماعات الوطنية منذ سقوط نظام الأسد، ويوكل إدارة الملف إلى فريقه الأمني وبعض الوزارات السيادية. وبدلًا من استقبال وفد الإدارة الذاتية، يُخصص وقته للقاء فرق تصميم “الهوية البصرية” للدولة السورية، في مشهد يعكس تعمّد تقزيم الحدث التفاوضي، والإيحاء بتفوق السلطة المركزية، المدعومة من دوائر النفوذ المحسوبة على ترامب.
أما المبعوث الأميركي، توماس باراك، فخرج عمليًا عن موقعه كوسيط، ليعيد إنتاج خطاب دمشق ذاته، مستخدمًا عبارات مثل “سوريا الواحدة” و”الجيش الواحد”، بل ذهب حدّ التصريح بأن “الفيدرالية لا تنجح في سوريا”، في موقف يُرضي كلًا من دمشق وأنقرة، ويطعن بعمق في جوهر المطالب الكردية، التي تستند إلى حقوق قومية وسياسية مشروعة في إطار واقع تعددي قائم.
إن شعارات “سوريا واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة”، التي رفعتها حكومة الشرع عقب الاجتماع، لا تعكس سوى تكريس الرؤية الإقصائية القديمة، حيث يُعاد بناء الدولة على أسس أحادية السلطة، لا على شراكة وطنية جامعة.
فـ”سوريا الواحدة” لا تعني سوريا المركزية المغلقة التي تُدار من قِبل نخبة ضيقة، بل تعني وحدةً وطنية تقوم على التعدد السياسي والاجتماعي. والجيش الواحد لا ينبغي أن يُعاد تشكيله في مراكز التدريب التركية، ولا أن يُدار من خارج الجغرافيا السورية، بل يجب أن يكون جيشًا وطنيًا جمهوريًا، يمثل مختلف مكونات الشعب السوري، ويعكس تنوعه.
في المقابل، بدا موقف الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية أكثر واقعية، إذ أكد ممثلوها أن حلّ القضية الكردية يمر عبر دمشق، وأنهم لا يسعون إلى الانفصال، بل يطالبون بنظام سياسي يُنهي التهميش البنيوي، ويفتح الباب أمام عقد اجتماعي جديد، يضمن الحقوق ويؤسس لدولة مواطنة فعلية.
لكن الواقع الجيوسياسي لا يزال معقّدًا، إن لم يكن شديد التعقيد. فالقوى الكردية، التي شكّلت رأس الحربة في مواجهة تنظيم “داعش”، أصبحت اليوم هدفًا لضغوط متعددة الأطراف:
• أميركية متقلّبة،
• تركية انتقائية،
• وسورية متشددة.
وحتى الدعم الفرنسي، رغم تماسكه من حيث الموقف السياسي، يبقى في مجمله رمزيًا أمام منطق توازنات القوة التي تُفرض بالميدان، لا تُرسم بالبيانات.
وفي هذا السياق، يبرز التحفيز الأميركي لحكومة الشرع باتجاه التطبيع مع إسرائيل كجزء من صفقة أوسع، تهدف إلى إعادة تموضع سوريا ضمن المدار الأميركي–الإسرائيلي، مترافقة مع تعهد غير معلن بإعادة ترتيب وضع الجولان، ضمن صيغة تتقاطع فيها اتفاقيات أبراهام مع المطلب الكردي بالفيدرالية.
هذا التحوّل في الموقف الأميركي من أولوية “الشروط الديمقراطية” نحو “صفقات الاستقرار القائم على الهيمنة” يُعبّر عن تبدّل جوهري في العقيدة السياسية لواشنطن. فالديمقراطية لم تعد هدفًا بحد ذاتها، بل أداة ضغط، تُوظف حينًا وتُهمل حين تقتضي المصالح.
وما تصريح باراك بأن “زمن التدخل الغربي قد انتهى”، إلا إعادة صياغة لرسالة أكثر وضوحًا: إن الحلفاء في ميزان واشنطن أوراق تفاوض، لا شركاء دائمون.
وقد بدت نتائج الاجتماع الأولية محبطة، لا لغياب الحلول، بل لغياب التوافق على الأهداف. ومع تصاعد الحوادث الأمنية في مناطق التماس، لا سيما في ريف دير الزور، وتكرار استهداف قوات “قسد” من قِبل مجهولين، يتزايد منسوب التلاعب بالرأي العام، عبر حملات تشويه ممنهجة ضد “قسد”، في إطار خطة واضحة تهدف إلى إضعاف صورتها كقوة وطنية جامعة.
وفي ظل غياب أي ضامن فعلي لاتفاق مستقبلي، يبقى التفاوض محفوفًا بالمخاطر، لكنه الفرصة الوحيدة المتبقية.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار بعض الإشارات الإيجابية:
• استمرار الوساطة الأميركية والفرنسية،
• دعم التحالف الغربي لـ”قسد” كشريك في محاربة الإرهاب،
• وجود تصور أولي لدمجها مستقبلًا في مؤسسات الدولة السورية،
• وبروز “التسوية التركية–الكردية” كعامل ضغط جديد يعيد صياغة الواقع السوري، بعيدًا عن منطق الحسم العسكري.
والمفارقة أن القوى الكردية، رغم حجم التحديات، لا تزال تحتفظ بعوامل قوة لا يمكن إغفالها:
• بنية عسكرية منظمة،
• غطاء سياسي واضح،
• شرعية نضالية اكتُسبت في مواجهة داعش،
• وجذور جغرافية–سياسية راسخة في شمال شرق سوريا.
لذلك، فإن سيناريو الانهيار المفاجئ، الذي أصاب نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2025، يبدو من الصعب تكراره في شمال شرق البلاد، الذي يتمتع بتماسك مؤسساتي وشعبي نسبي.
خاتمة:
في نهاية المطاف، لم تعد المسألة بين “سلطة” و”متمردين”، بل بين تصورَين لسوريا المستقبل:
• تصور تطرحه دمشق، يقوم على مزرعة مغلقة تُدار بقبضة مركزية،
• وتصور تدعو إليه “الإدارة الذاتية وقسد”، يُؤسِّس لـوطن تعددي جامع، يكون فيه لكل مكوّن مكان ومكانة دون استجداء.
بين هذين التصورين، ستُحسم معركة العقد الاجتماعي القادم:
هل تكون سوريا دولة قومية مركزية، تُختزل في القصر؟
أم مشروعًا وطنيًا تشاركيًا، يُعيد تعريف الدولة بوصفها فضاءً مشتركًا للمواطنة؟
لقد أرهقت الحرب الجميع، لكن التفاوض، رغم عيوبه، يبقى الفرصة الوحيدة لإنقاذ ما تبقى من سوريا، لا لإعادة إنتاج فشلها السابق.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.