NORTH PULSE NETWORK NPN

انتـ.ـهاك الكنـ.ـائس في الـ.ـشرق والمـ.ـسكوت عنه حول حيـ.ـاة المسـ.ـيحين في شمال وشرق سورية

انتهاك الكنائس في الشرق

والمسكوت عنه حول حياة المسيحين في شمال وشرق سورية

«لقد شوهدوا يحتضنون معبوداتهم مثل أطفال كبار مصابين بالشلل»

غوستاف فلوبير ، إغواءات القديس انطونيوس

في عام ١٩٤٥ دعا القادة السياسيون في مصر إلى مظاهرات في ذكرى وعد بلفور وتطورت هذه المظاهرات بسرعة إلى حالة شغب هائج، هوجمت خلاله عدد من الكنائس الارثوذكسية واليونانية والأرمنية وأصيبت بأضرار، ما قد يدعو للتساؤل: ما علاقة الكاثوىيك الأرمن واليونانيين بوعد بلفور؟!

قد يبدو هذا الحدث علائقيًّا بطريقة ما بالتطورات التي رافقت نهوض الإسلام السياسي في العالم العربي، فهذه التطورات التي لم تخلُ في خطوة من خطواتها من العنف والدموية المفرطة بحق الأقليات العرقية والدينية، ليمتلئ سجل الحركات الإسلامية بأحداث مروعة كان آخرها التفجير الانتحاري في كنيسة مار الياس بدمشق بتاريخ ٢٢ حزيران ٢٠٢٥ الذي خلف عددًا من الضحايا الأبرياء.

إن التطور المعاق لفكر الثورة عند شريحة مهمة من المسلمين يعود بك ورائيا إلى الفصلة المفسرة له؛ وهي أن الحركة الشعبية في العالم العربي أصبحت أقل قومية وأكثر دينية، ففي أوقات الأزمات يطغى الولاء الغرائزي على كل ولاء آخر، عندها ستغدو حركات الاحتجاج لا عقلانية تسيطر على الثائرين بالشبوب الانفعالي والغريزة والأحقاد الجارفة.

وفي هذا السياق، فإن المشهد السوري يختصر مأساة تاريخية طويلة، كان للصراع الديني قصب السبق فيها، فلا غرابة من استهداف كنيسة مار الياس في دمشق في مجتمع ما زالت دلالات العصور الوسطى حاضرة في مفرداته. ولأن الولاءات تتغير لدى الشعوب في حالة الفوضى والنزاعات السياسية، فإن المزاج الشعبي في سورية اليوم هو أقل عربية وأكثر إسلاميةً، والمثير للقلق أن التعاطف مع أحداث الكنيسة كان عبارة عن ديباجة مبتذلة كررها الجميع فيما لم تتخذ أي جهة كانت موقفًا جديًّا، والرعب يكمن فيما تخفيه النفوس فما خفي كان أعظم.

المسيحيون في شمال شرق سورية بين الديمقراطية والخوف من الأسلمة

حاول الجانب التركي عبر تقارير استخباراتية إلصاق تهمة التفجير بقوات سورية الديمقراطية متناسيًا تا يخ تركيا الطويل في اضطهاد الأقليات الدينية بدءا من سورية واليونان في زمن الاحتلال العثماني، مرورًا بمجازر الأرمن الرهيبة ذائعة الصيت، وصولا لدعم الإرهاب في عصرنا الحالي فالشواهد على عدم احترام  الأقليات كثيرة.

ينعم المسيحيون في روجآفا بحياة آمنة إذْ ما تزال هناك العديد من الكنائس المسيحية التاريخية التي بناها الأرمن والآشوريون والسريان والكلدان الذين فروا من الإبادة الجماعية (مجزرة سيفو) التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية، وأقدمها كنيسة (القديس يعقوب) بنصيبين التي بنيت عام 1927. وخارج قامشلو في قرية (هيمو)  توجد كنيسة مشهورة لدى المسيحيين في جميع أنحاء روج آفا، وهي  كنيسة (القديسة فبرونيا)، حيث كانت فبرونية راهبة في أحد أديرة نصيبين في القرن الثالث الميلادي.

ومن الكنائس  التي ما تزال قائمة على طول نهر الخابور دير القديسة مريم في تل الورديات, وهو دير السريان الأرثوذكس الذي تأسس عام ٢٠٠٠، والدير الذي يبعد حوالي 25 كيلومتراً عن مدينة الحسكة يقع بينها وبين تل تمر، يزوره رجال الدين بانتظام، ويستضيف دورات دينية بالإضافة إلى معسكرات ترفيهية، وكان الرهبان والشمامسة يجيئون من كل مكان لتعليم اللغة السريانية والطقوس الدينية السريانية. وفي عام 2013، تم تطويق الدير حيث تعرضت منطقة سري كانيه لهجوم على يد جبهة النصرة، وبعد ذلك بعامين هدد تنظيم داعش المنطقة فاجتاح تل تمر والقرى الآشورية على طول نهر الخابور، حيث لجأت حوالي 200 عائلة إلى الدير الذي كان بمثابة ملجأ خلال الحربين. وفي عام 2019، أصبح الدير مرة أخرى ملاذاً لأولئك الفارّين من القرى على طول الخطوط الأمامية في منطقة الخابور أثناء الغزو التركي لسري كانيه.

في كوباني التي كانت تصلي فيها خمسون عائلة مسيحية في كنيسة الأخوة وهي أول كنيسة إنجيلية في المدينة، يعيش المسيحيون بأمان مشوب بالخوف من هجوم تركي قد يدمر حياتهم كما حصل  في عفرين. وتعد هذه المنطقة المكان الوحيد الذي يتمتع فيه الناس بحرية العبادة من دون عوائق؛ بل هي المكان الوحيد في الواقع الذي يُسمح فيه بالتبشير وتغيير الشخص لدينه قانونيًا. وبفضل هذه الظروف والمناخ الديمقراطي الذي أرسته الإدارة الذاتية، استمر المجتمع المسيحي بالنمو وقد سلطت اللجنة الأمريكية للحريات الدينية الدولية الضوء على المستوى المتميز للحرية الدينية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية في تقريرها السنوي لعام ٢٠٢٠.

في عام ٢٠١٨ أقدمت تركيا على غزو عفرين التي كانت تتمتع سابقا بحقوق وحريات في ظل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، حيث قال أحد سكانها المسلمين: «حولت الجماعات الإسلامية الموالية لتركيا عفرين إلى أرض عصابات إجرامية، وأصبحت الاعتقالات التعسفية والخطف وطلب الفدية والاغتصاب جزءًا من حياتنا اليومية. لقد حولتها تركيا إلى تورا بورا أخرى». وكانت قد فرت ٣٠٠ عائلة مسيحية تسكن في عفرين، وأُغلقت الكنيسة ومدارس الموسيقى والفنون، وأُرغمت الفتيات على ارتداء الحجاب والنقاب، وفُرضت الشريعة الإسلامية في كل أنحاء المدينة.

وفي تل تمر بمحافظة الحسكة، يروي أحد سكان مخيم بردرش (النازحين من تل تمر) قائلًا: «كان جدي أرمنيا فر من ماردين عندما بدأت المجازر بحق الأرمن واستقر في تل تمر حيث وفر له الكرد الطعام والمأوى. وفي، ٢٠١٩ أُجبر أحفاده على ترك تل تمر حيث قيل لنا أنتم كفار، وصودرت ممتلكاتنا وهجرنا إلى مخيم بردرش في سهل نينوي في رحلة شاقة».

وفي المقابل كانت قوات سورية الديمقراطية كلما فرغت من تحرير منطقة تنشئ على الفور إدارة ذاتية محلية، حيث تنتخب الأحياء رئيسين مشاركين، رجل وامرأة، مع تعزيز التسامح الديني وحقوق الإنسان بدلا من إنشاء ديكتاتورية عسكرية على غرار ما يفعله الكثيرون، فقد أسسو نموذجًا يُحتذى في الديمقراطية تمثل بالإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، إذ تُعدّ الإدارة الذاتية حالة فريدة من نوعها في الشرق الأوسط وقد نشرت شبكة سي بي إن نيوز  تقريرًا عن هذه الحكومة الناشئة آنذاك في عام ٢٠١٩.

وفي ذلك التقرير، يقول الصحفي المستقل كارلوس زوروتوزا: «إنه أمر جديد تمامًا – جديد تمامًا في الشرق الأوسط»، وأضاف زوروتوزا: «منذ اليوم الأول، أي منذ عام ٢٠١٢ – منذ تحرير أراضيهم – بدأوا في إعادة بناء المجتمع المدني، ودمجوا مكوناتهم في المنطقة؛ ليس الكرد فحسب، بل العرب والأرمن والسريان».

لطالما بقيت فكرة الدولة قضية جدلية في العالم الإسلامي، اذ لا يمكن الفصل ما بين الديني والسياسي في أمة اتخذت من العقيدة معينا فكريا لها، لكن سرعان ما استبدلتها بالعصبية بعد فشل السلطة الأخلاقية في إرساء دعائم الدولة، لتتحول فكرة الدولة في المخيال الإسلامي  إلى وسيلة لامتلاك أدوات القهر والسيطرة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.