NORTH PULSE NETWORK NPN

إمبـ.ـراطورية ناعـ.ـمة بثـ.ـوب عثـ.ـماني

بقلم: (د. فرات ناصر الناصر )
لم يكن الحضور التركي المتنامي في إفريقيا مجرد تحرّك دبلوماسي عابر، بل يمكن وصفه بأنه استراتيجية شاملة تسعى إلى إعادة تموضع أنقرة عالميًا عبر استثمار متوازن بين القوة الناعمة والصلبة، في مشهد يعيد إلى الذاكرة صور التوسع العثماني، ولكن بأدوات العصر: طائرات مسيّرة، قواعد عسكرية، اتفاقات تنموية، ومصافحات دافئة مع الأنظمة الإفريقية التي أُرهقت من تركة الاستعمار الأوروبي التقليدي.

في العام 2002، لم يكن لتركيا سوى 12 سفارة في القارة الإفريقية. بعد أكثر من عقدين، تقفز هذه السفارات إلى 44 بعثة دبلوماسية، في وقتٍ ارتفع فيه عدد رحلات الطيران المباشر إلى أكثر من 60 خطًّا جويًّا. لم تأتِ هذه القفزات الدبلوماسية من فراغ؛ بل تأسّست على قناعة تركيّة بأن إفريقيا باتت ركيزةً أساسية لأي مشروع جيوسياسي عالمي، في ظل تراجع الهيمنة الأوروبية التقليدية، ولا سيما الفرنسية، عن عدد من دول الساحل وغرب القارة.

نموذج “توركسوم”: قاعدة بملامح إمبراطورية

تعد القاعدة التركية في مقديشو، والتي افتُتحت عام 2017 تحت اسم “توركسوم”، نقطة تحوّل نوعية في الحضور العسكري التركي خارج حدودها. تمتد القاعدة على مساحة 400 هكتار، وتُخرّج سنويًا آلاف الجنود الصوماليين، وقد أصبحت عمليًا الذراع الأمنية لأنقرة في القرن الإفريقي، خصوصًا مع تنامي نشاط الجماعات المتشددة وتضاؤل دور البعثات الغربية في تلك الرقعة.

وقد عزّزت أنقرة هذا الوجود مؤخرًا بقاعدة جديدة في مدينة أبيشي في تشاد، ما يمهّد لتمركز تركي على الساحل الإفريقي للمرة الأولى. يُضاف إلى ذلك تعزيز التعاون العسكري من خلال تصدير طائرات “بيرقدار” المسيّرة إلى السودان ومالي وإثيوبيا والصومال، وهي الطائرات ذاتها التي أثبتت فاعليتها في النزاعات الإقليمية من ناغورني قره باغ إلى أوكرانيا.

اقتصاد السياسة: تجارة، استثمار، ومعدن

لا تنفصل الأذرع العسكرية عن مصالح اقتصادية صلبة. ففي العام 2024 تجاوز حجم التبادل التجاري بين تركيا وإفريقيا حاجز 36 مليار دولار، فيما تخطّت الاستثمارات التركية في القارة 92 مليارًا، وفق أرقام وزارة الخارجية التركية. وتتموضع هذه الاستثمارات في قطاعات حيوية من البنية التحتية، إلى المطارات، والموانئ، وبناء المستشفيات والمدارس، وكل ذلك بواجهة تنموية تغلّف المشروع بأكمله تحت مظلة “الشراكة لا الوصاية”، بحسب تعبير المسؤولين الأتراك.

لكن التحليل السياسي العميق يكشف أنّ أنقرة تربط مصالحها الاقتصادية بديناميات السيطرة الناعمة وتسهيل النفاذ الجيوسياسي. فاستثمارات المعادن في النيجر ومالي مثلًا، ليست سوى الوجه الآخر للحضور العسكري، في حين يُنظر إلى التعليم والمنح الدراسية التي تُمنح للطلاب الأفارقة باعتبارها عملية تخليق نخب موالية للرؤية التركية الجديدة.

من إفريقيا إلى آسيا: عودة الطموح الإمبراطوري

السياسة الخارجية التركية في إفريقيا لا يمكن فصلها عن سياقات أوسع في آسيا الوسطى والعالم العربي. في العراق وسوريا، تنسج أنقرة نفوذًا يتراوح بين التدخل العسكري المباشر والدبلوماسية الخشنة. في ليبيا، كانت تركيا أول الواصلين عسكريًا وسياسيًا لدعم حكومة الوفاق في طرابلس. وفي الخليج، رغم التوترات، فإن الوجود التركي في قطر عبر القاعدة العسكرية هناك يمثّل عنوانًا آخر لتثبيت الأقدام.

تظهر هذه التحركات مجتمعة كأنها تنفيذ عملي لما يُسمى “العثمانية الجديدة”، وهي الفكرة التي تراود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ سنوات، مدعومًا بفكر سياسي يُزاوج بين الطموح الجيوسياسي وأدبيات حركة الإخوان المسلمين، التي ترى في تركيا مركزًا رمزيًا لقيادة الأمة الإسلامية.

الأردوغانية: سياسة خارجية بمذاق إخواني عثماني

لا يمكن قراءة السياسات التوسعية التركية دون الغوص في البنية الأيديولوجية لنظام أردوغان. فقد بُني مشروعه الخارجي على ركيزتين: استعادة الدور الإقليمي العثماني، وإعادة إنتاج دور تركيا كمركز للإسلام السياسي السُنّي، في مواجهة الانكفاء العربي والصعود الإيراني.

ينهل أردوغان من فكر سياسي يتقاطع مع أدبيات الجماعات الإخوانية، وهو فكر يمزج الدين بالقومية، ويُعيد تأويل الخلافة بصيغة معاصرة تتناسب مع أدوات القرن الواحد والعشرين. ولذلك لا تستغرب أن تكون معظم الدول التي تعادي هذا المشروع اليوم هي نفسها التي ترفض الإسلام السياسي.

غير أن هذا النموذج التركي، على ما يبدو، ليس محصنًا ضد التآكل. فسياسات التوسع غير المتوازن قد تصطدم بعقبات محلية وإقليمية. فالوجود العسكري، وإن ارتدى لباس المساعدات، يولد حساسية سيادية في البلدان المضيفة، خصوصًا إذا اقترن بتدخلات أمنية أو دعم لطرف دون آخر. أما داخليًا، فالتكلفة الاقتصادية المتزايدة للتوسع الخارجي قد تتحول إلى عبء سياسي على أردوغان، في وقت بدأت فيه ملامح الإنهاك الاقتصادي تظهر على الداخل التركي.

نهاية الطريق: هل يصمد الحلم العثماني؟

الأسئلة الكبرى التي تُطرح اليوم ليست عن قوة تركيا أو قدراتها التكنولوجية، بل عن قدرة هذا المشروع على الاستمرار وسط تحولات عالمية وإقليمية كبرى. فالمشروع الأردوغاني، الذي يغذيه الحنين إلى ماضٍ إمبراطوري ويرتكز على رؤى أيديولوجية، قد يبلغ سقفه في حال واجه مقاومة إفريقية متنامية، أو اصطدم بجدران صلبة من قبل القوى العظمى المتضررة من تمدّده.

قد لا تسقط الأحلام العثمانية دفعة واحدة، لكنها قد تتآكل تدريجيًا مع تغيّر موازين القوى، وتبدّل الأولويات الدولية، وربما داخل تركيا نفسها، إذا ما بدأ الشارع التركي بمساءلة أولويات أردوغان بين الداخل والخارج.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.