NORTH PULSE NETWORK NPN

سوريا في قبضة التسويات القسرية: تفكيك الدولة باسم الاستقرار وتلميع الجولاني كأداة احتلال

 

بقلم: [الدكتور فرات ناصر الناصر]

في خضم زحام الأحداث المتسارعة في المنطقة، وفي لحظة تاريخية يبدو فيها الشرق الأوسط كخريطة قيد الإعداد داخل غرف مغلقة، تعود سوريا إلى واجهة المشهد، لا باعتبارها فاعلًا، بل بوصفها ساحة مفتوحة لتقاسم النفوذ والمصالح، وكأنها “كعكة ما بعد الحرب”. بين رفع العقوبات من جهة، ومحاولات إعادة تأهيل شخصيات وكيانات مصنفة بالإرهاب من جهة أخرى، تتكشف ملامح المشروع الأخطر الذي تواجهه سوريا منذ عقود: تفكيك الدولة وتحويلها إلى مساحات نفوذ متداخلة، في ظل تغييبٍ تام لصوت السوريين ومشروعهم الوطني.

من رفع العقوبات إلى خفض السيادة

قرار الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب برفع جزء من العقوبات المفروضة على سوريا، والذي حُمل إعلاميًا على أنه “مبادرة استقرار” أو “تمهيد لإعادة الإعمار”، ليس سوى غطاء لخطوة أعمق وأكثر خطورة. فالخطوة، كما تكشف خفايا المشهد، لا تستهدف تحسين ظروف الداخل السوري، بقدر ما تكرّس واقعًا جديدًا من الهيمنة الدولية على مفاصل الدولة. من البنك المركزي السوري إلى الموارد الطبيعية، ومن الجغرافيا إلى القرار السياسي، يجري سلخ السيادة السورية شبرًا تلو الآخر، ضمن ترتيبات تتجاوز الداخل السوري لصالح مشاريع إقليمية ودولية.

الإدارة الأمريكية، عبر آليات قانونية واقتصادية دقيقة، نزعت عمليًا مفاتيح النظام المالي من يد دمشق، وربطت أي تدفق مالي أو إصلاحي بشرط الطاعة السياسية، لا التنمية الوطنية. وفي الجنوب، تفرض إسرائيل حضورًا مباشرًا في حوض اليرموك، متحكمة بمصادر المياه وبمناطق استراتيجية تمثل شرايين الحياة للمنطقة، تحت غطاء تفاهمات أمنية غير معلنة. أما الشمال، فصار مجال نفوذ تركي مباشر، تُديره أنقرة كملحق لأمنها القومي، وتُوظّف ملف اللاجئين وتدفقهم كورقة ضغط على أوروبا.

الجولاني: من الإرهاب إلى المشهد السياسي.

في قلب هذا الترتيب الجديد، تبرز محاولة تلميع وجه أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، كمشروع سياسي محتمل. الرجل، الذي كان اسمه بالأمس مدرجًا في قوائم الإرهاب الدولية، يظهر اليوم في مقابلات صحفية مرتديًا بزة رسمية، يُقدَّم كمنقذ محتمل، أو حتى كـ”أداة استقرار”. لكن الحقيقة مختلفة، فالمسألة لا تتعلق بتحول حقيقي، بل بإعادة توظيف.

الجولاني ليس سوى أداة من أدوات هذا المخطط؛ لم يصعد بسبب مشروع سياسي مقنع أو بديل وطني جامع، بل لأن القوى الفاعلة وجدت فيه واجهة وظيفية قابلة للتفاوض، يمكن ضبطها واستخدامها لملء الفراغ، دون تهديد المنظومة الدولية الجديدة في سوريا. رفع اسمه من لوائح الإرهاب –إن حصل– سيكون مجرد ورقة تفاوض، لا إعلان توبة. وما لم يتغير هو تصنيف “هيئة تحرير الشام” ككيان إرهابي، ومسؤوليتها القانونية عن جرائم وانتهاكات موثقة.

تغييب السوريين: الجهل كسلاح سياسي.

ما يجري يُبنى على تغييب السوريين، لا فقط بالقمع أو التهجير، بل عبر إغراق الشارع بأوهام أيديولوجية، وإيهام الناس بأن الحلول تأتي من الخارج أو من قادة الميليشيات. الإعلام الداعم لهذا المشروع يعمد إلى اختزال الصراع في شخصيات، وتقديم أدوات الاحتلال كقادة “انتقال”، في حين يتم تغييب السؤال الأهم: من يمثل السوريين اليوم؟ وما هو المشروع الوطني الحقيقي الذي يعبر عن تطلعاتهم؟

والأخطر أن ما نشهده ليس مجرد مرحلة انتقالية، بل شكل جديد من الاحتلال غير التقليدي، يُدار عبر أدوات محلية، ويُفرض على شعب جُرِّد من قراره وشرعيته.

المأزق البنيوي: سوريا بين موت البنية القديمة وتعثر الجديدة

إذا كانت الثورة السورية قد نجحت في تفكيك بنية النظام الأسدي التي استمرت لعقود، فإن هذه الخطوة لم تُستكمل بولادة بنية جديدة قادرة على تمثيل المشروع الوطني الجامع. وهنا تتبدى مأساة سورية الحديثة: صراعٌ بين بنية قديمة لم تعد قابلة للحياة، وبنية جديدة لم تولد بعد.

المفكر السوري د. أحمد برقاوي يطرح هذه الإشكالية بعمق، معتبرًا أن التغيير الحقيقي لا يكمن في إزالة النظام فحسب، بل في تجاوز البنية الذهنية التي ترسّخت بفعل عقود من الاستبداد، وتكوين مؤسسات حديثة تؤمن بالمدنية، والتعدد، وحرية التفكير، وفصل السلطات، وإنهاء عسكرة الدولة. فالثورة، من دون عقل استراتيجي ومن دون إرادة جماعية واعية، قد تفقد بوصلتها وتتحول إلى أداة بيد الخارج.

ويُحذّر برقاوي من محاولة “استعارة” نماذج خارجية لفرضها على المجتمع السوري، دون مراعاة الشروط البنيوية والتاريخية المحلية. فكما لا يمكن استعادة بنية مدمرة، لا يمكن بناء بنية جديدة بعناصر فاسدة أو ذهنية استبدادية مغلّفة بأسماء جديدة. ما يحتاجه السوريون، اليوم، ليس مجرد إسقاط وجوه، بل بناء وعي جمعي يتجاوز الطائفية والولاءات الضيقة.

سوريا الجديدة: مشروع قطيعة لا مساومة.

المستقبل السوري مرهون بقدرة السوريين على إنتاج مشروع قطيعة لا مساومة. سوريا الجديدة يجب أن تتأسس على دولة مدنية، لا أيديولوجية، تضمن المساواة في المواطنة، وتحرر الجيش من التدخل السياسي، وتعيد القضاء إلى مكانته المستقلة. سوريا بحاجة إلى نخبة جديدة، ومجتمع مدني نشط، وأحزاب سياسية حقيقية، وآليات تمثيل ديمقراطي تضمن مشاركة الجميع في صناعة القرار.

ليس هناك خلاص عبر بوابات الجولاني، ولا عبر طاولات تقسيم النفوذ، بل من خلال مشروع وطني عابر للطوائف والمصالح الدولية، يبدأ من الداخل ويخاطب الخارج بشروطه، لا العكس.

بين الخضوع والمقاومة: سؤال اللحظة.

السؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم بجرأة هو: هل يمكن للسوريين، رغم هذا التفكك والانقسام والتدخل الخارجي، أن يُعيدوا الإمساك بمصيرهم؟ هل يمكن تحويل المأساة إلى فرصة تأسيس لمرحلة مختلفة، تنتج فيها البنية الذهنية الجديدة أدواتها وخطابها وممثليها؟ أم أن البلاد محكومة بالركود التاريخي الطويل، حيث تُدار كمنطقة رمادية، بلا سيادة، وبلا شرعية، وبلا أفق؟

الجواب لا يُكتب بقرارات أمريكية ولا بخطابات فصائلية. إنما بصوت السوريين، إذا قرروا أن يكون لهم صوت. وما لم تُفضح اللعبة بكل أدواتها ومُخرجاتها، سيبقى الجولاني وغيره رموزًا لأكثر من احتلال، ولأخطر مشروع: قتل سوريا باسم إنقاذها.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.