رغم مرور أكثر من 8 أشهر على استيـ.ـلاء “هيئة تحرير الشام” على السلطة في دمشق ومحاولات فرض نفسها كسلطة أمر واقع وبناء شرعية مزعومة على أساسها، لا تزال سوريا غارقة في أزمتها وربما تعمقت هذه الأزمة بمعدل أكبر نتيجة الأخطاء التي أوقع النظام الجديد نفسه فيها في إطار سياسته الإقصائية ذات العقلية الفصائلية وجهوده للاستفراد بالسلطة مستفيداً من الدعم التركي المباشر ووساطات السعودية لرفع العقوبات عن الدولة السورية وإعادة دمجها في المجتمع الدولي، إلا أن سلطة دمشق لا تزال عاجزة عن تحقيق الاستقرار في البلاد وقيادة المرحلة الانتقالية بدعم من كافة المكونات. ويصف المراقبون المشهد الحالي في سوريا بأنه مشابه تماماً لسياسة “هيئة تحرير الشام” أثناء سيطرتها على محافظة إدلب والمتمثلة باستمرار التحالف وتلقي الدعم من تركيا، والتودد إلى دول الخليج العربية لتلقي التمويل من خلال الجماعات السلفية، وغض النظر عن الانتهاكات التي يتعرض لها الكرد في الشمال السوري ومهاجمة العلويين والشيعة والمرشدين بحجة “فلول النظام” والعمل على القضاء على فصائل السويداء وإخضاع المحافظة الدرزية لسيطرة الإسلاميين.
وفي السياق، شهد الأسبوع الماضي تطورات في الموقف الدولي والمحلي تجاه سلطة دمشق، حيث كشف بيان لمجلس الأمن الدولي الفظائع التي ارتكبت في السويداء، وصدور تقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في سوريا بخصوص الانتهاكات التي ارتكبت في الساحل السوري، وتقرير البنتاغون بخصوص هشاشة قوات سلطة دمشق وتغلغل الجماعات الإرهابية فيه، بالإضافة إلى مؤتمر “وحدة مكونات إقليم شمال وشرق سوريا” الذي انعقد في مدينة الحسكة في 8 آب الجاري والذي شاركت فيه شخصيات سورية نخبوية ورؤساء الطوائف العلوية والدرزية والمسيحية عارضت السياسة الإقصائية لسلطة دمشق والانتهاكات التي ترتكبها وأعلنت دعمها الصريح لقوات سوريا الديمقراطية وبناء نظام ديمقراطي في البلاد. ويشير مراقبون إلى أن هذه التطورات أظهرت حقيقة سلطة دمشق ككيان يتعارض مع المصلحة الوطنية السورية يرتكب الانتهاكات بحق السوريين ويعزز من الانقسام الداخلي ويستقوي بتركيا لفرض أجندته وسلطته ويقصي كافة القوى الوطنية السورية عن المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد، وبناء منظومة أمنية وعسكرية من عشرات الفصائل والجماعات الإرهابية والمعاقبة دولياً والمتورطة في جرائم بحق السوريين. كما ويشكل في الوقت نفسه تهديداً للأمن والسلم الإقليمي والدولي.
وكشف تقييم أعدّته وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) لصالح أعضاء الكونغرس الأميركي أن ما يسمى بـ”الجيش السوري الجديد” التابع للحكومة الانتقالية في سوريا يفتقر إلى بنية نظامية متماسكة، ويعتمد في عمله على تحالف هش ومجزأ يضم متزعمين من “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) وعدداً من “الميليشيات السنية المتطرفة”. وأظهر التقرير أن مجموعات مصنفة خطرة لدى واشنطن، مثل “تنظيم حراس الدين”، استعادت نفوذاً ملحوظاً في دمشق رغم إعلانها حلّ نفسها بعد سقوط نظام الأسد، وتواصل التأثير في تشكيل سياسات الحكومة الانتقالية، رغم الخلافات السابقة بينها وبين “هيئة تحرير الشام”. ووفق تقديرات مسؤولين في وكالة استخبارات الدفاع الأميركية، فإن جماعات مرتبطة بتنظيم “القاعدة” ما زالت تعمل بدرجة من الاستقلالية تحت رعاية “هيئة تحرير الشام”، ما يمنح “حراس الدين” السابقين حرية الحركة ومحاولة التأثير على سياسات الحكومة الانتقالية في سوريا.
وأصدرت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في سوريا نتائج تحقيقاتها بخصوص أعمال العنف التي استهدفت في المقام الأول المجتمعات العلوية وبلغت ذروتها في مجازر وقعت في أوائل آذار 2025. وأكد اللجنة ارتكاب الفصائل المنضوية في قوات سلطة دمشق أعمال العنف القـ.ـتل والتعذيب والأفعال اللاإنسانية المتعلقة بمعاملة الموتى، والنهب على نطاق واسع وحرق المنازل، مما أدى إلى نزوح عشرات الآلاف من المدنيين. وأشارت إلى قيام المسلحين التابعية للسلطة على تحديد الرجال الذين ينتمون إلى الطائفة العلوية، ثم فصلهم عن النساء والأطفال قبل اقتيادهم إلى الخارج لإطلاق النار عليهم وقتلهم، حيث تركت الجثـ.ـث في الشوارع لأيام، ومُنعت العائلات من دفنها وفقاً للطقوس الدينية، بينما دُفن آخرون في مقابر جماعية دون توثيق سليم. وأكد رئيس لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في سوريا “باولو سيرجيو بينهيرو” على استمرار حالات اختطاف النساء من حماة وطرطوس واللاذقية والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري، فضلاً عن استمرار نهب الممتلكات واحتلالها. وأضاف «وثقنا استخدام لغة مهينة ضد النساء وتهديدات بالاختطاف والزواج القسري من قبل أعضاء الفصائل المسلحة.. خلال الأحداث، أشار بعض الرجال المسلحين إلى النساء العلويات بألفاظ “عبيد”، “غنائم حرب”، أو أمرن “بالذهاب إلى إدلب للاستعداد للجهاد”، لا سيما في أعقاب الحوادث التي أعدم فيها العديد من أفراد الأسر المذكور.. وفي إحدى الحوادث سُمع رجال مسلحون في تل سلحب يهتفون اسمعوا أيها العلويون، سنقتل أطفالكم ونغتصب نساءكم، سنقتل أطفالكم. وهددت نساء في الرصافة والصنوبر بالعنف الجنسي وأخذهن كسبايا (أسرى حرب) بعد أن أعدم المسلحون أقاربهن الذكور. تعرضت امرأة للاغتصاب المتكرر من قبل مسلحين كما تعرضت للضرب المبرح ولإهانات دينية ووصفت بأنها غنيمة حرب واستمر الاعتداء لعدة أيام..».
وفي 10 آب/أغسطس 2025 أدان مجلس الأمن أعمال العنف ضد المدنيين في السويداء منذ 12 تموز والتي شملت عمليات قتل جماعي وفقدان الأرواح، وأدت إلى نزوح نحو 192 ألف شخص داخلياً. وأشار بيان مجلس الأمن إلى تقاعس سلطة دمشق في حماية المدنيين قائلاً «كرر مجلس الأمن تأكيد دعوته للسلطات المؤقتة أن توفر الحماية للسوريين قاطبة، كائنا ما كان انتماؤهم العرقي أو الديني، وشدد على عدم إمكانية تحقيق التعافي الحقيقي في سوريا دون تدابير حقيقية لتوفير الأمان والحماية للسوريين كافة»، كما وأكد أهمية مكافحة جميع أشكال الإرهاب في سوريا، معرباً عن قلقه البالغ من حدة التهديد الذي يشكله المقاتلون الإرهابيون الأجانب، مشيراً إلى أن هذا التهديد قد يؤثر في المناطق والدول الأعضاء جميعا. وجدد مجلس الأمن تأكيده على تنفيذ عملية سياسية شاملة للجميع يقودها السوريون ويمسكون بزمامها، استنادا إلى المبادئ الرئيسية الواردة في القرار 2254. ويشمل ذلك حماية حقوق السوريين كافة، بغض النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني…
نورث بالس
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.