NORTH PULSE NETWORK NPN

«إفلاس الدولة وصعود الوهم: هيئة تحرير الشام وورطة الاقتصاد المزدوج»

 

الكاتب: مهدي صادق أمين

بعد الضجة الكبيرة التي أثارتها حملة «أبشري حوران» حول حقيقة مصدر الأموال ، فور إعلان وزير مالية الجولاني، عن تبرع بعشرة ملايين دولار، بدا وكأن السلطة تحاول تمرير رسائل سياسية واجتماعية تحت غطاء الإغاثة. لكن ما كُشف لاحقاً تجاوز حدود التبرعات الإنسانية، ليكشف طبيعة الأزمة المالية والأخلاقية لسلطة الأمر الواقع المؤقتة، الذي تقودها هيئة تحرير الشام في دمشق.

منذ البداية، قيل إن المبلغ جاء من خزينة الدولة. لكن الانتقادات الواسعة أجبرت وزير مالية الجولاني على تغيير روايته، مؤكداً أن الأموال مخصصة أصلاً لمحافظة درعا ضمن الموازنة العامة. غير أن هذا التفسير يفتقر إلى المنطق، فآليات الموازنة الرسمية لا تسمح بصرف مبالغ ضخمة بشكل مفاجئ، ولا يمكن اختزال حقوق المحافظات بمكرمات سياسية. والأهم أن هذه الإجراءات تحتاج إلى مسارات بيروقراطية وقانونية لا يمكن تجاوزها بين ليلة وضحاها. وهنا يصبح من المشروع التساؤل: إذا لم يكن المال من الموازنة العامة للدولة، فمن أين؟

الجواب الأقرب إلى الواقع هو أن هذه الأموال لم تأتِ من الدورة الرسمية للاقتصاد، بل من خزائن هيئة تحرير الشام خارج النظام المالي المؤسسي. نحن أمام «مال سياسي» بامتياز، جرى إخراجه من الدائرة السرية للهيئة وتحويله إلى أداة نفوذ اجتماعي في مناطق لم تكن يوماً حاضنة لها، مثل درعا. هذه الاستراتيجية التي تحمل طابعاً «تبشيريّاً» بالمال، لا تختلف عن تجارب ميليشيات عابرة للدول مثل حركة طالبان في أفغانستان، حيث يتعايش اقتصادان: رسمي هزيل وموازٍ متخم بالاستثمارات والولاءات.

قبل سقوط نظام الأسد في كانون أول الماضي، كانت الهيئة تمتلك فوائض مالية تقدر بمئات الملايين من الدولارات، معظمها من موارد المعابر والضرائب غير الرسمية، إضافة إلى شركات واجهة يديرها قادة ومقربون في مجالات الصيرفة، الاتصالات، المحروقات، العقارات، النقل، المطاحن والتجارة العامة. هذه المنظومة لم تكن مجرد مصادر دخل، بل شبكة متكاملة من المصالح تحكمت بالاقتصاد المحلي، وأمنت للهيئة «خزائن خاصة» منفصلة عن أي رقابة أو شفافية.

وكرست أولوية التمويل: الأمن، شراء الولاءات، وتوسيع النفوذ الاجتماعي، لا بناء مؤسسات دولة.

لكن ما هو لافت أن الهيئة، وبعد اغتصابها الحكم في دمشق، لم تبادر إلى دمج مواردها في المصرف المركزي أو الموازنة العامة لتعزيز شرعية الدولة الجديدة. لم نرَ أي محاولة لإخضاع الأموال إلى الدورة القانونية للاقتصاد، بل واصلت الهيئة إدارة منظومتها الاقتصادية–النقدية في إدلب، كأن شيئاً لم يتغير. إنها سلطة تعيش على اقتصاد موازٍ، وتدير الدولة بعقلية «شركة خاصة» تستثمر في الولاءات وتخصخص كل ما يمكن خصخصته.

إن ما جرى في حملة «أبشري حوران» ليس سوى مثال صارخ على هذا النفاق السياسي والديني. فالأموال التي يقال إنها تبرعات «إنسانية» ليست سوى عمليات تبييض سياسي لثروات الهيئة. يجري تقديمها كمنح إغاثية لتكسب غطاءً شرعياً واجتماعياً، بينما هي في حقيقتها أدوات سلطة للهيمنة وكسب الشعبية في مناطق مشككة بولاءاتها. إنها خدعة مركبة: تعتمد خداع المجتمع وإيهام الناس بكرم الدولة، وخداع الداخل السوري بإبقاء الخزائن الحقيقية خارج أي مساءلة.

الأزمة هنا أعمق من مجرد غياب شفافية مالية. نحن أمام سلطة دينية مؤقتة، محكومة بالزوال، لأنها لا تمتلك أي تصور وطني لبناء الدولة. فهي تعيش على ازدواجية بين خطاب شرعي–أخلاقي يبرر السرية وانعدام المحاسبة، وبين ممارسة واقعية تضعها خارج السياق الإنساني والحضاري والعلمي لمجتمع يريد العيش بكرامة.

هذه الازدواجية هي التي تقود اليوم إلى مأزق استراتيجي. فبقاء دورة مالية مزدوجة، مع اقتصاد رسمي محدود وآخر موازٍ خاص، سيجعل أي مشروع لإعادة الإعمار أو التنمية المتوازنة مستحيلاً. الدولة لا يمكن أن تُبنى على اقتصاد ما يُعرف بـ “الرأسمالية الزبائنية، ولا على تبييض الأموال عبر حملات إغاثية، ولا على دعاية عن اتفاقيات استثمارية وهمية لا يرى منها المواطن سوى صور تذكارية شخصية وتصريحات فارغة.

الحل الوطني يبدأ أولاً من كسر هذه الازدواجية. أي حديث عن مستقبل لسوريا لا بد أن يقوم على دمج الموارد كافة في الموازنة العامة والمصرف المركزي، وتفكيك اقتصاد المحاسيب، وإعادة الاعتبار للقانون والمؤسسات لا للولاءات. المطلوب هو الانتقال من اقتصاد الغنيمة إلى اقتصاد المواطنة، ومن سلطة السرية إلى دولة الشفافية.

وصار من المؤكد للقاصي والداني، أن الذي سقط بعد وصول عصابات الجولاني إلى دمشق، لم يك أشخاصاً ولا حكومة عابرة، بل الدولة نفسها بمؤسساتها وقوانينها. واليوم، يواجه السوريون سؤالاً مصيرياً: إما الاستمرار في هذا المسار المأزوم الذي يكرّس اقتصاداً طفيلياً وسلطة مؤقتة بلا مستقبل، أو استعادة مشروع الدولة الوطنية على أسس حديثة، شفافة، وعادلة. الخيار ليس نظرياً، بل وجودياً، لأن الإفلاس القادم لن يكون مالياً فقط، بل أخلاقياً وسياسياً وحضارياً.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.