NORTH PULSE NETWORK NPN

مؤتمر الحسكة… بين خطاب التعددية ومخاوف التفكك

 

قراءة في بيان «وحدة الصف» ومآلاته

بقلم: د. فرات ناصر الناصر

في مدينة الحسكة، التي باتت أشبه بمختبر سياسي مفتوح لمستقبل سوريا، التأم يوم الجمعة 8 آب/ 2025 «كونفرانس وحدة الموقف لمكونات شمال وشرق سوريا» بمشاركة أكثر من 400 شخصية، مثّلت الإدارة الذاتية والمكونات القومية والدينية في المنطقة: كرد، عرب، سريان آشوريون، تركمان، أرمن، شركس، إلى جانب رسائل مصوّرة من قيادات دينية علوية ودرزية من خارج مناطق الإدارة الذاتية.

البيان الختامي للمؤتمر حمل شعارات الوحدة، واللامركزية، والدستور الديمقراطي، لكنه فتح في الوقت ذاته بابًا واسعًا على أسئلة المستقبل السوري، ووضع تحديًا سياسيًا وفكريًا أمام السلطة المركزية المؤقتة في دمشق، والفاعلين الإقليميين والدوليين على حد سواء.

مضمون البيان… «التنوع مصدر قوة»

شدد البيان على أن التعدد القومي والديني والثقافي في شمال وشرق سوريا ليس عبئًا على الدولة، بل مصدر غنى وقوة، داعيًا إلى ترسيخ هذا التنوع في البنى السياسية والإدارية. وأكد المشاركون أن النموذج الإداري القائم في مناطق الإدارة الذاتية هو تجربة قابلة للتطوير، مع رفض أي مشروع لتغيير ديموغرافي، والمطالبة بمسار عدالة انتقالية يضمن عودة آمنة وكريمة للمهجرين، وكشف الحقيقة ومحاسبة الجناة «أياً كانوا».

كما دعا البيان إلى صياغة دستور ديمقراطي يكرّس اللامركزية ويضمن مشاركة فعلية لجميع المكونات، وإلى عقد مؤتمر وطني سوري شامل، يعيد تعريف الهوية الوطنية على أسس المساواة والمواطنة المتساوية.

خطاب المؤتمر… بين الممكن والمأمول

على خلاف مؤتمرات المعارضة التقليدية في العقد الماضي، التي وقعت في فخ الشعارات الفضفاضة أو النزاعات على تمثيل القوى، حاول مؤتمر الحسكة المزج بين الاعتراف بالوقائع الميدانية القائمة منذ سنوات، والتطلع إلى إعادة تأسيس العقد الاجتماعي السوري.

اللامركزية المطروحة ليست وليدة اللحظة، بل امتداد لمطالب ظهرت منذ بدايات الحرب السورية ٢٠١١، وقوبلت حينها بالرفض من دمشق وبالريبة من قوى المعارضة العربية التقليدية. اليوم، تأتي هذه الطروحات في ظل ميزان قوى مختلف، وإدارة أمر واقع أثبتت قدرتها على البقاء، ما يمنح الخطاب ثقلًا سياسيًا أكبر.

الأبعاد الإقليمية… الحسكة في مرمى الحسابات

لا يمكن قراءة المؤتمر بمعزل عن المناخ الإقليمي. فالمؤتمر انعقد على وقع أحاديث عن جولات تفاوض بين الإدارة الذاتية ودمشق، وزيارات دبلوماسية إقليمية، أبرزها زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى سوريا. تركيا، التي خففت لهجتها تجاه قوات سوريا الديمقراطية قبل أشهر، عادت إلى خطاب «التنظيم الإرهابي» بعد اشتباكات حلب الأخيرة، ما يعني أن أي تحرك سياسي في مناطق الإدارة الذاتية سيظل رهينًا بموقف أنقرة.

لكن المستجد الأهم إقليميًا كان التصريح السعودي في 3 تموز/ 2025، الذي دعا إلى «طائف سوري» على غرار اتفاق الطائف اللبناني، باعتباره مخرجًا لإنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة. هذا الطرح، وإن بدا للبعض محاولة لتسويق تسوية شاملة، فإنه يثير تساؤلات حول شكل الدولة المقبلة، وعما إذا كان سيكرّس المحاصصة الطائفية أو يؤسس لمواطنة متساوية.

موسكو… عودة عبر دمشق أم الحسكة؟

روسيا التي خفّضت منسوب انخراطها العسكري المباشر منذ 2023، تبدو اليوم بصدد إعادة التموضع. السؤال هو: هل ستدخل من بوابة دمشق التقليدية، بما يضمن إعادة تعويم السلطة المركزية، أم من بوابة الحسكة، بما يمنحها ورقة تأثير على المكونات غير المندرجة كليًا في سلطة دمشق؟ الرهان الروسي قد يتأرجح بين المسارين، بحسب ميزان النفوذ مع واشنطن وأنقرة.

إيران… وشبح العودة

في الكواليس، يهمس مقربون من دوائر صنع القرار المؤقتة في دمشق بقلق من عودة محتملة لإيران كلاعب ميداني وسياسي فاعل، خصوصًا مع تصاعد الانكشاف الاقتصادي للحكومة الانتقالية. طهران التي انكفأت نسبيًا في العامين الأخيرين، قد تجد في الفوضى الإقليمية فرصة للعودة، سواء عبر دمشق أو عبر قنواتها التقليدية في الجنوب والشمال الشرقي.

دمشق… وهم الاستثمار وسط الفقر

بينما تعاني مناطق واسعة من سوريا من فقر مدقع، ومجاعة حقيقية في بعض المناطق الريفية، تروّج السلطة المؤقتة في دمشق لحزم استثمارية بمليارات الدولارات، في ما يبدو أقرب إلى «الوهم الاقتصادي» منه إلى خطة إنقاذ. هذه الوعود التي تُقدَّم في مؤتمرات استعراضية، ليست سوى محاولة لصرف الأنظار عن العجز الحكومي، وتخدير الشارع بخطاب تنموي غير واقعي.

اللامركزية… من مطلب سياسي إلى إجماع شعبي

لم تعد اللامركزية مطلبًا نخبويًا أو حكرًا على مكوّن بعينه؛ بل تحوّلت، بفعل السياسات الإقصائية لحكومة دمشق الانتقالية، إلى مطلب جماهيري في معظم المحافظات السورية، بما في ذلك الأوساط العلوية والدرزية، التي طالما راهنت السلطة على ولائها. هذا التحول الشعبي يكشف أن الدولة المركزية بصيغتها الحالية لم تعد قادرة على احتواء التنوع السوري أو تلبية احتياجاته.

بين الفيدرالية واللامركزية… جدل مستمر

رغم تجنّب البيان استخدام لفظ «الفيدرالية»، فإن طرح اللامركزية بصلاحيات سياسية وإدارية واسعة، وجيش وطني جديد، يقترب من الفيدرالية المقنّعة. وبينما تراها بعض المكونات ضمانة لحقوقها، ترى فيها دمشق وبعض القوى الإقليمية خطوة على طريق التقسيم.

الخاتمة…

سؤال المستقبل

مؤتمر الحسكة ليس حدثًا محليًا محدود الأثر، بل مؤشر على تحوّل النقاش السوري نحو إعادة تعريف شكل الدولة والعقد الاجتماعي. لكنه أيضًا تذكير بأن أي مشروع وطني لا يمكن أن ينجح من دون إرادة سياسية جامعة، تعترف بالتعددية لا كمناورة تفاوضية، بل كأساس لبقاء الدولة.

ويبقى السؤال: هل يمكن لخطاب التعددية واللامركزية أن يتحوّل إلى مشروع وطني جامع، أم أن الانقسامات الداخلية وحسابات الخارج ستعيد إنتاج التشظي؟ الجواب لن تحسمه المؤتمرات وحدها، بل ساحات السياسة والميدان معًا، وإرادة السوريين في صياغة وحدة طوعية، لا قسرية.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.