الكاتب: د. فرات ناصر الناصر
في المشهد السوري الراهن، تختلط المشاريع وتتقاطع الإرادات الإقليمية والدولية، غير أن أخطر ما يتهدد مستقبل البلاد ليس مجرد التدخلات الخارجية بقدر ما هو ذلك الكيان الإرهابي المؤقت الذي نصّب نفسه سلطة باسم الحكومة السورية، والذي يقوده أبو محمد الجولاني. فهذه الحكومة التي تحاول تقديم نفسها باعتبارها دولة، ليست سوى واجهة وظيفية مرتبطة بسيناريو أوسع يرسمه الخارج، لضمان إبقاء سوريا في حالة الانقسام والتحكم عن بُعد.
لقد علّمنا التاريخ أن القوى الكبرى لا تعمل بمنطق المبادئ، وإنما بمنطق المصالح. فهي تمارس لعبة توزيع الدعم بين قوى متعارضة، بما يضمن بقاءها رهينة الحاجة إليها. وكما قال مكيافيلي: “السيطرة لا تأتي من القوة، بل من توزيعها بين خصومك.” هذا ما نراه جلياً في الحالة السورية من خلال صناعة سلطة أمر واقع، متمثلة بحكومة الجولاني المؤقتة، التي لا تمتلك أيًّا من مقومات الدولة أو أدوات السياسة، ومع ذلك تطالب الآخرين بالانضمام إلى الدولة، في حين أن المطلوب أولاً أن تنخرط هي في مشروع الدولة السورية لا أن تدّعي تمثيلها.
إن خطورة هذه الحكومة لا تنبع فقط من وظيفتها السياسية، وإنما من بنيتها الذهنية التي تمثل نموذجًا صارخًا لمرض السلطة. فهي تجسد حالة تضخم “الأنا” إلى حد إنكار الواقع، وكأنها تعاني من زهايمر سياسي، عاجزة عن تذكر دروس الأمس أو قراءة معادلات اليوم. وبدل أن تعمل على بناء مؤسسات حديثة تخدم المجتمع، تستغرق في فرض هيمنة أمنية قمعية، وتشرعن العنف بخطاب مغلق يعيد المجتمع قرونًا إلى الوراء.
الجولاني وحكومته يمارسون شكلاً مركباً من النفاق السياسي والديني والاجتماعي: يدّعون حماية المجتمع فيما هم ينشرون الخوف، ويزعمون إدارة الشأن العام بينما ينشرون الفوضى، ويقدّمون أنفسهم كمرجعيات دينية ووطنية وهم في الحقيقة مجرد أدوات رخيصة تستخدم الدين للسيطرة على الشعب. هذه السلطة لا تعكس إرادة السوريين ولا تمثل طموحاتهم، بل تكرس نمطًا بدائيًا من الاستبداد يتجاوز في تخلفه حتى الأنظمة التي خرج الشعب السوري ضدها.
وفق تقديرات مراكز القرار العالمية، فإن هذه الحكومة ليست سوى مرحلة انتقالية في مخطط أوسع لتفكيك سوريا. فهي ورقة وظيفية مؤقتة، تُحرق بمجرد انتهاء الحاجة إليها، كما حدث في تجارب سابقة من تاريخ المنطقة( مصر- تونس) نموذجاً. ولذلك فهي لا تمثل مشروعاً وطنياً ولا كياناً سيادياً، بل مجرد أداة من أدوات كتابة السيناريو الإقليمي والدولي.
ابن خلدون، في مقدمته، حين تحدث عن العمران البشري وصيرورة السلطة، نبّه إلى أن الاستبداد القائم على العصبية الضيقة سرعان ما ينقلب على نفسه ويهلك أهله. وهو يصف تماماً مثل هذه التجارب التي تمثل أدنى درجات الانحطاط الإنساني والحضاري، إذ تقوم على الاستبداد والغلبة لا على العمران أو الرؤية السياسية. وحكومة الجولاني ليست إلا مثالاً معاصراً على ما أشار إليه ابن خلدون: سلطة عاجزة عن تأسيس دولة أو إنتاج حضارة، بل متغذية على الدم والفوضى، ومنفصلة عن شروط هذا الزمن.
إن بقاء الجولاني وسلطته الوهمية يشكل خطراً مضاعفاً: فهو لا يملك رؤية وطنية، ولا أدوات الدولة، ومع ذلك يفرض نفسه باعتباره مرجعاً. وهذه الحالة تبقي سوريا رهينة للفوضى وتحرم السوريين من إمكانية بناء مشروع جامع يمثلهم جميعاً. لذلك فإن الواجب اليوم هو تعرية هذا الكيان أمام الرأي العام السوري والعربي والإسلامي.
هذه ليست حكومة بالمعنى الحقيقي، ولا يمكن لها أن تكون الدولة السورية، بل عليها أولاً أن تعترف بالدولة وتنخرط فيها، قبل أن تطالب الآخرين بالانضمام إليها. أما استمرارها كسلطة مركزية ثمثل الشعب، فهو ضرب من الوهم المرضي، قائم على تضخم الأنا وفقدان الذاكرة السياسية. وكل من يراهن عليها إنما يراهن على مشروع فاشل، لن ينتج سوى مزيد من الانقسام والخراب.
المطلوب اليوم ليس انتظار سقوط هذا الدور المؤقت، وإنما بناء بديل وطني جامع، يعيد الاعتبار لفكرة الدولة السورية الواحدة، ويحمي وحدة البلاد من التجزئة، ويقطع الطريق على تكرار التجارب الوظيفية التي لم تُنتج إلا الاستبداد والانقسام. وحدها وحدة السوريين قادرة على طيّ هذه الصفحة المأساوية، وإعادة رسم مستقبل يليق بتضحياتهم ودمائهم من أجل الحرية والكرامة.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.