NORTH PULSE NETWORK NPN

سوريا في عين العاصـ.ـفة: حـ.ـرب الذاكرة والجغرافيا. 

*الكاتب: مهدي صادق أمين.

*مقدمة: سوريا ليست روايةً أحادية. 

في لحظات التحولات الكبرى، تميل الشعوب إلى تبني رواياتٍ مُبسَّطة تُختزل فيها التعقيدات إلى شعارات، وتُسجن الحقائق في زوايا ضيقة. لكن سوريا، بكل مأساتها، لا تُختزل في وجهة نظر واحدة. هي ليست مجرد سطر في سجل الانتصارات أو الهزائم، ولا ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية. سوريا وطنٌ بجذور ضاربة في الأرض، وأفق مفتوح على الحياة.

الرؤية الأحادية لا تكفي لفهم ما جرى. فمن رأى الصراع كـ”ثورة شعبية ضد نظام قمعي”، أو كـ”مؤامرة دولية لتفكيك بلد صامد”، فقد أغفل الحقيقة التي تعيش في الظلال: في بيوت المدن المدمرة، وفي عيون المهجرين، وفي صمت الضحايا الذين دفعوا ثمن الروايات المتصارعة.

*الحرب الإسرائيلية-الإيرانية: انتصارات وهمية وخسائر حقيقية. 

الأسبوع الماضي، شهدت المنطقة حرباً إسرائيلية-إيرانية بمواصفات “الغش الامتحاني”، حيث ادعى كل طرف انتصاره:

– إسرائيل احتفت بـ”تحييد المشروع النووي الإيراني”، بينما رأت إيران في بقاء نظامها انتصاراً، رغم تدمير مراكز أبحاثها.

– الولايات المتحدة، تحت إدارة ترامب، خرجت كالمنتصر الوحيد: لم تخسر جندياً، وحققت مكاسب مالية وسياسية، بينما ظلت الأزمة السورية تُدار كورقة في صراع النفوذ. والخاسر الأكبر هو الشعب السوري بكل مكوناته، بعد أن تحولت سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات، حتى صارت غارقةً في الفوضى، بلا سيادة حقيقية، وبلا مشروع وطني يجمع أبناءها.

*الواقع السوري: بين فوضى سلطة دمشق وإدارة ذاتية منظمة. 

1. فشل واضح لحكومة دمشق يتمثل في:

– السياسات الشعبوية المتبعة، كزيادة الرواتب بعد فصل مئات الآلاف من الموظفين، ما يجعل الزيادة مجرد وهمٍ إحصائي.

– انهيار الخدمات في مختلف المجالات، وانقطاع الكهرباء والماء، وتفشي الجريمة المنظمة، وفشل جهاز الأمن العام في حماية المدنيين حتى داخل العاصمة.

– العجز عن حل الأزمات الإنسانية، مثل أزمة مياه الحسكة، حيث تقطع عصابات “الجيش الوطني” المياه عن المدينة، بينما تعجز دمشق عن الضغط على تركيا لاستئناف الضخ.

2. نجاح نسبي في مناطق الإدارة الذاتية (شمال شرق سوريا) يتجسد في:

– الاستقرار الأمني: مقارنةً بمناطق سيطرة الحكومة، شهدت هذه المنطقة استتباباً أمنياً ملحوظاً.

– الاكتفاء الذاتي: تحقيق إنتاج زراعي (خاصة القمح) يفوق حاجة المنطقة، رغم الحصار المفروض.

– إدارة أكثر شفافية: على عكس فساد مؤسسات حكومة دمشق، تظهر الإدارة الذاتية قدرةً على تقديم خدمات أساسية بكفاءة أعلى.

*ملفات عالقة:

– عفرين وانعدام الثقة: بعد أن فشلت دمشق في الالتزام باتفاقياتها مع الأكراد، مما زاد من انعدام الثقة بين الطرفين.

– التطهير العرقي: حيث تحولت عفرين إلى نموذج للانتهاكات تحت سيطرة الفصائل الموالية لتركيا، بينما تقف دمشق عاجزةً (أو غير راغبة) في حماية المدنيين.

*الانفجارات الأخيرة: جراح لم تندمل.

الهجوم على كنيسة مار إلياس في دمشق (22 حزيران)، الذي أودى بحياة 25 شخصاً وأصاب العشرات، هو حلقة جديدة في سلسلة العنف التي تعصف بالبلد. هذه الحادثة تذكر السوريين باغتيال الشيخ البوطي (2013)، وتؤكد أن:

– الأمن غائب: لا تزال سوريا بيئة خصبة للعنف، رغم ادعاءات النظام باستعادة السيطرة.

– استهداف التنوع: الهجمات على الكنائس والمساجد تُذكّر بأن الحرب لم تكن سياسية فقط، بل هدفت إلى تمزيق النسيج الاجتماعي.

*الخاتمة. 

سوريا تحتاج إلى عينين، إلى من يراها كاملةً بكل تعقيداتها، لا من يختزلها في روايةٍ واحدة. تحتاج إلى من يعترف بأن الانتصار الحقيقي ليس رفع علم على الخراب، بل إعادة الحياة إلى شعبها. تحتاج من يفهم أن الجغرافيا توحد، بينما التاريخ حين يُستدعى كسلاح، يُفتت الوطن.

سوريا ليست قصةً تُروى من جانب واحد. هي وطنٌ يستحق أكثر من أن يكون ساحةً لحروب الآخرين.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.