بين بندقية قسد وطاولة دمشق: المفاوضات المؤجلة وميزان القوة المتغيّر
بقلم: مهدي صادق أمين
في المشهد السوري الراهن، حيث تتقاطع الخرائط الجغرافية بالمصالح السياسية، وتتماهى المعارك العسكرية مع الحسابات الدولية، تقف المفاوضات بين “قوات سوريا الديمقراطية” والحكومة السورية المؤقته عند مفترق بالغ الدقة. لقاء باريس الذي كان من المزمع انعقاده في 25 تموز، لم يُعقد. التأجيل لم يكن فنياً ولا بروتوكولياً، بل مؤشراً على خلل بنيوي في التفاهمات، وانكشاف في موازين القوة الفعلية بين طرفين يحاولان إعادة رسم شروط التفاوض على أرضية اتفاق العاشر من آذار، دون أن تمتلك دمشق ضمانات كاملة أو تفويضاً مطلقاً.
من قامشلو إلى باريس: الطريق المؤجلة للمسألة الكردية
المسألة الكردية في سوريا، التي طالما حُصرت في نطاق محليّ، لم تعد كذلك بعد مؤتمر وحدة الصف الكردي في قامشلو، والذي مثّل لحظة نادرة من التوافق الكردي الداخلي. خرج المؤتمر بوثيقة تُعدّ في جوهرها إعلان إرادة سياسية نيابة عن المكوّن الكردي في سوريا. لم تكن قرارات المؤتمر مجرّد توافق داخلي، بل تموضعاً جديداً في المعادلة السورية، عبّر عنه القائد العام لقسد، مظلوم عبدي، حين أكّد أن نتائج المؤتمر ستُناقش مستقبلاً مع الحكومة السورية ضمن مفاوضات أوسع حول مستقبل شمال وشرق سوريا، لا كجزء من مشروع انفصالي، بل كطرح سياسي يتصل بجوهر الدولة السورية القادمة.
لكن الطاولة التي يُفترض أن تُعرض عليها هذه النتائج لم تُجهّز بعد. عبدي لم يُخفِ بأن الأرضية الحقيقية لبدء حوار منتظم مع دمشق ما تزال غائبة، رغم بعض اللقاءات التي وصفها بأنها لم ترقَ بعد إلى مستوى التفاوض الممنهج.
باريس: المكان المؤجل، والدور الدولي الحاضر
باريس كانت مقرّراً لعقد اجتماع نوعي بين وفد من شمال وشرق سوريا والحكومة السورية المؤقتة برعاية فرنسية-أميركية. الترتيبات أنجزت، والمندوبون استعدّوا، ولكن الاجتماع أُلغي في اللحظة الأخيرة بناء على طلب دمشق التي برّرت الأمر بانشغالها بتطورات السويداء. المبرّر لا يُخفي الحقيقة الأوسع: السلطة السورية المؤقتة، بعد أحداث السويداء وجرمانا والساحل، لم تعد تملك ما يكفي من التماسك الداخلي للجلوس إلى طاولة تفاوض جدّي من موقع القوّة.
رغم ذلك، لم تُسحب الدعوات، ولم يُلغَ المسار، بل أُعيد تفعيل العملية التفاوضية، وتم الاتفاق على موعد جديد لم يُكشف عنه بعد. وهنا تكتسب المشاركة الفرنسية والأميركية أهمية إضافية، إذ تشير إلى أن اللقاء القادم لن يكون مجرّد اجتماع محلي بل تطور سياسي ذو طابع دولي، في ظل تراجع مفاعيل الحصار السياسي على دمشق، وتحوّل الشمال الشرقي إلى ورقة مركبة في يد اللاعبين الدوليين.
سوريا الممزقة وسؤال السلاح: مفاوضات على حافة الخنادق
في العمق، لا تدور المفاوضات حول الدستور أو النفط أو المعابر فقط، بل حول سؤال واحد: من يحمل السلاح ومن يُسقطه؟ هذا هو خط التماس الحقيقي. اتفاق العاشر من آذار تضمّن بنداً واضحاً عن دمج قسد في مؤسسات الدولة، لكن دمشق – عبر تصريحات لاحقة – ألمحت إلى مطلب نزع سلاح قسد بالكامل. من منظور السلطة، هذا هو الامتحان النهائي للولاء. ومن منظور قسد، هذا هو الامتحان النهائي للكرامة.
في ظلّ ارتكابات حصلت في السويداء والساحل، وتوثيقات لانتهاكات قوات محسوبة على “الحكومة المؤقتة في دمشق”، أصبحت أي دعوة لإلقاء السلاح دون ضمانات سياسية ومجتمعية ودستورية شاملة، أقرب إلى تسليم غير مشروط لطرف أثبت عدم قدرته على إدارة التنوع السوري إلا عبر الغلبة.
وإن كانت السلطة قد عوّلت سابقاً على الوقت كحليف استراتيجي، فإن تطورات الأشهر الأخيرة – بما في ذلك تماسك الجبهة الكردية، واستمرار الدعم الدولي، والتراجع الميداني في الجنوب – أظهرت أن الوقت لم يعد يميل لصالحها. قسد، التي تخوض حرباً طويلة ضد داعش بدعم دولي، لم تعد مجرد تشكيل عسكري، بل أصبحت مكوّناً سياسياً تتعامل معه واشنطن وباريس كجزء من مستقبل سوريا، لا كقوة أمر واقع.
التحولات في الجنوب ومفاعيلها شمالاً
أحداث السويداء لم تكن حدثاً معزولاً. إنها نقطة تحوّل في علاقة الأطراف السورية بالسلطة المركزية. فالمطالب التي رُفعت هناك – مثل اللامركزية والتمثيل السياسي العادل والعدالة في توزيع الموارد – هي ذاتها مطالب قسد، ولكن بلسانٍ مختلف. من هنا، يمكن فهم سبب تأجيل دمشق للقاء باريس ورفع سقف خطابها ضد قسد؛ فالموقف التفاوضي الذي تملكه السلطة المؤقتة، تراجع ميدانياً، وهي تحاول ترميمه سياسياً برفع الشروط قبل الدخول في الجولة المقبلة.
لكن هذا الرفع لا يمكن فصله عن إدراك دمشق للحدود الجديدة لقوتها، بعد أن باتت عاجزة عن الحسم في الجنوب، ومُطالَبة دولياً بتحقيق مصالحة وطنية شاملة تحت سقف قرار أممي واضح. ولا شك أن أي مغامرة جديدة باتجاه الشمال الشرقي ستُقرأ دولياً كانقلاب على مخرجات بيان 25 تموز الثلاثي (سوري – فرنسي – أميركي) الذي شدّد على استكمال تنفيذ اتفاق العاشر من آذار.
خطاب مزدوج ومشهد إعلامي مستعار
السلطة المؤقتة في دمشق لا تتحدث بلغة واحدة. هناك خطاب رسمي يُبدي مرونة مشروطة، وخطاب إعلامي موازٍ يُطلق الشتائم ويشكك في وطنية الأطراف الأخرى. الإعلام الموازي، والمموّل من خزينة الدولة، يحرّك الجموع ضد “العدو الوظيفي الداخلي” أياً كانت هويته، ما يعكس أزمة سردية وطنية أكثر من كونه خلافاً سياسياً مع قسد.
وفي ظلّ هذا الانقسام بين الخطابين، تتنامى المخاوف من أن تكون المفاوضات الموعودة مجرّد واجهة، بينما تعود ممارسات التهميش والتخوين لتكون أداة النظام في السيطرة. وهذا يعزّز لدى قسد وغيرها من القوى المهمّشة اقتناعاً بأن السلاح لم يعد خياراً عسكرياً فقط، بل ضمانة وجودية في ظل خطاب إعلامي يقوم على “الاستئصال الرمزي” قبل أي اتفاق سياسي.
في الطريق إلى دمشق: لا تفاهم خارج الدمج
قسد لا ترفض الدمج في مؤسسات الدولة، لكنها ترفض الذوبان فيها. وهي تدرك أن التحول إلى مكوّن مدني داخل دولة مركزية، دون إصلاح النظام السياسي القائم، لن يؤدي إلا إلى تكرار المأساة بمشهد مختلف. المطلوب ليس إسقاط السلاح، بل تحويله إلى أداة تفاوض حقيقية نحو شراكة وطنية مبنية على اللامركزية، ودستور يعترف بالتعددية اللغوية والثقافية، ويُعيد تعريف العلاقة بين الدولة ومكوّناتها على أساس التعاقد لا التسلّط.
إن الحديث عن المشترك الوطني لا يكتمل دون اعتراف بالواقع المتغير: سوريا ما بعد 2011 لم تعد كما كانت، وقسد لم تعد تفكر في بقائها فقط، بل في دورها داخل الدولة. ما لم يتم إدراكه في دمشق حتى الآن هو أن التفاوض مع قسد لا يتم على قاعدة “العودة إلى حضن الوطن”، بل على قاعدة بناء وطن جديد يكون فيه للكرد، كما لبقية المكونات، مكان محميّ بالقانون لا بالتفاهمات الهشة.
خاتمة: الفرصة التي لا تتكرر
ما يجري بين قسد ودمشق ليس مفاوضات عسكرية ولا صفقات نفطية. إنها لحظة اختبار لرؤية سورية جديدة، تعيد بناء الدولة على أساس تشاركي، لا استعلائي. في هذه اللحظة، لا يبدو أن قسد ستقبل بأقل من ضمانات دستورية واضحة، ولا يبدو أن السلطة المؤقتة قادرة على تقديم ما هو أبعد من تعهدات لفظية.
ومع ذلك، فإن الباب لم يُغلق بعد. الاستحقاقات القادمة، إن استُثمرت بجدية، قد تؤسس لمعادلة سورية مختلفة. أما إذا أُهدرت هذه الفرصة، فإن البلاد ستكون أمام جولة جديدة من التنازع المفتوح، حيث لا تُبنى الدول، بل تتكاثر الجبهات.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.